لم يمنع العالم الشعري القاسي في متطلباته من متابعة ما ألمّ ب فلسطين أخيرًا وعاصمتها القدس
 

يعود الشاعر شوقي بزيع الى ميدان الشعر بطريقة لم تحدث , فقدم لنا تجربة غنيّة اعتدنا على غناها منذ بداية انتاجه الشعريّة لكنه فاجأ القارىء بكوكبة من التجديد بدءًا من عنوان المجموعة "الحياة كما لم تحدث " الصادرة عن دار الآداب عام 2018 ولم تنته عند الموضوعات الفريدة التي عالجها الشاعر بشكل حديث . 

فكانت البداية تقليدية نسبة لمجموعة"  إلى أين تأخذني أيها الشعر " الصادرة عن الدار نفسه حيث كان القاسم المشترك هو المغزى الذي استنتجه الشاعر من عالم التأليف والشعر والحق أن بزيع يعد من الشعراء الذين سقوا القراء بما استنبطوه من حقل الشعر من تعاليم وخلاصات فتراه في قصيدة "كعبة الكلمات " يتوسع ليقودنا الى مشرحة التأليف بدءًا من ضبابية الفكرة وصولا الى انتقاء الرموز والكلمات الا أنّ ما ميّز هذه  القصيدة عن أخواتها تجلّي الوعي عند الشاعر على حساب اللاوعي فكانت كعبة الكلمات مدخلا أظهر لنا رؤيتين :الأولى بقاء الشاعر في دوامة الشك (اذ ليس ثمة من وصفة / لانتزاع الحقيقة من تربة الشك (ص.7) ) والثانية وصف مباشر وعميق لعملية التفكّر والتفكير التي تعد قصيرة المدى (واقفًا وحده فوق هوّة أقداره الغفل /كيما يلقح معنى عقيمًا للأضداد ). ليطرح بعدها الأثر الذي تولده الكتابة عمومًا بشكل لافت وغريب مستعينًا بالغريزة الآدمية  (تفتضّ أشهى عذارى المعاني ص (10) ) ثم خصّص بؤرة ليعطي انطباعًا عن الشعر بشكل ناضج (فما الشعر أبعد من عضة السم في ناب أفعى الظلام ص 11) .

كل هذه الأمور طرحت في المجموعات السابقة لكن ما ميّزها استعانة الشاعر بطرق جديدة وقوالب مدهشة تجبرنا على البقاء طويلا لتأمل القصيدة وقراءة ما بين سطورها خاصة وان بزيع يتجه للغوص بشكل عميق مستعملا مصطلحات لغوية صعبة لاقامة التوازن بين صعوبة الموضوعات وصعوبة نسجها .

ودائما متبعين قطار التجديد توقفنا القصائد الطويلة التي ولدت بعد تأمل وتفكير عميق للشاعر وابتعادات عن سكة الكتابة  نتوقف لنرى تجلّيًا لعقدة تمسك الشاعر بالحياة .

والحق أن بزيع أراد ايصال هذه الفكرة وما وضع مقطع ينطق بها على غلاف المجموعة إلا خير دليل (لم أكن أريد غير أرض صلبة  يمكنني الوثوق من وحولها ص 22 ) .

لتظهر تتمة القصيدة استحالة تحقيق هذه الأمنية (لكن عطبًا ما من تعفن /الوجود نفسه ص 22) أتى ليذكرنا بتقديس طاغور في مجموعة سلة الفاكهة للحياة السماوية وإقرار من بزيع بصعوبة التربص بالحكمة لتغدو "حديقة الأخطاء ثورة عكسية تخط الجمال بشكل زجاجي ( لست إلا رجلاً محرفًا /يسير عكس ما أراده ص 26 ).

إضافة إلى ذلك أن الثلث الثاني من قصيدة "الحياة كما لم تحدث " ولعكس ما يراود المسنون من صراع داخلي بين الوجود وعدمه , بين اللقاء وعدمه  على شكل مشهد (لم نتمهل بوضع النقاط على دروب عودتنا المستكين ص 28).

والسؤال الذي يطرح نفسه هل ضمير نحن يعبّر عن ضم الشاعر نفسه الى هؤلاء أم هو كما عاهدنا في السابق ينطق باسم من يشعر بحالتهم ؟

وفي فلك التنوع في ألوان المواضيع من رؤية الى قضية الى رثاء الخ اختار بزيع تسمية الشاعرين العاملين في مدينة الحرية باللصين وهي اشارة الى اضمحلال هذه القيمة  ناهيك عن تشبيه ما حدث بهما بما حدث ل آل ياسر وسحرة فرعون التائبين (لم يقولا  حين سيقا الى مقصلة الذبح :"لماذا نحن دون جميع الناس (ص48)) .

لم تخلُ المجموعة من مزج وضخ لعاصرة انسابت من عدة مجموعات شعرية للشاعر نفسه ف قصيدة النهر والتمثال أتت لتذكرنا بقصيدة فراشات لابتسامة بوذا لكن المفارقة ان التمثال تزوج النهر بواسطة وثيقة رمزية عميقة  اضافة الى تجديد بزيع تمسكه بأسلوب اعادة سرد القصص بطريقة شعرية وهذا ما ميزه عن سواه في عدة قصائد ك (قمصان يوسف ) دون الحصر .

الى جانب ذلك لم يمنع العالم الشعري القاسي في متطلباته من متابعة ما ألمّ ب فلسطين أخيرًا وعاصمتها القدس فكانت فرصة ليقول الشاعر أن الوطن لا يرتبط مطلقًا بالحزن والقضية ليس نكبة ولطم وحزن (لن أدل الكلام عليها اذن /كي أعد ل ياء اسمها ما /يساندها من هُوى... ص 74).
هذا في الحقل الوطني أما في حقل الرؤيا الحقل المهيمن على صفحات بزيع الشعرية  فأتت تعقب الأثر كبوح عما يدور في صدر الشاعر من حنين للماضي وعلاقته بطفولته واصراره على العودة اليها بقالب ناضج او قالب كهل ( كيما أربي لشيخوختي ذكريات/ مدربة كالكلاب على لعق أيامها الفائتة (ص 94).

إضافة الى تكوين صورة جديدة عن الحياة بعد الموت بطريقة مجازية دقيقة  (ثمّ في كل قبر ثقوب/ أعدت لمنح الخيوط التي تصل الميتين /بأعمارهم ص 104 ).

وفي حواره مع الحبيب الزيروي تذكير آخر بقصيدة الكوكب الضاحك , الطلقة ,مرثيتان لأبي...لكنما أراد إيصاله أن الشعر يستطيع أن يواكب التطور عبر كلمة "فايسبوك" بشكل أنيق .

وما الحوار أيضاً إلا تضخيم في السردية الشعرية التي شهدناها في قصيدة الزهايمر وتكثيف الصور فيها .

وفي نساء 2 هروب واضح للشاعر من الشيخوخة نحو الماضي الفتي الذي يذكرنا ب عمر بن أبي ربيعة حين نرى تعداد الحبيبات او النساء من وفاء , صفاء ...(ويهدي كهولته خاتما للحنين ص 146 ) .

وعرض النمط الإباحي بشكل عذري أنيق (إنه الآن يجلس وجها لوجه مع النهر/نهر النساء الذي لا يكف عن الجريان ص 146).


في خلاصة هذه المجموعة يؤكد بزيع أنه يكمل رحلته في البحث عما هو فريد معززًا صلابة مدرسته الشعرية على طريقة المتنبي : ( وأمضي في معوصات الشعر قسرًا/فأقتلها وغير في الطراد ) ناطقًا باسم الرؤيا وممعناً بإعطاء الشعر ومن يتعاطى معه مسؤولية التمحيص والتدقيق لينتج عن القارىء انطباعًا لم يحدث من قبله وقد لا يحدث بعده ....