أظهر خطاب رئيس الجمهورية ميشال عون في عيد الجيش أنّ مشكلة الرئيس المكلّف سعد الحريري الحقيقية ليست مع وزير الخارجية جبران باسيل بل مع عون نفسه. الجفاء المتبادل بين «دولته» و»معاليه» ليس سوى الإنعكاس المباشر لأزمة التكليف على خط بعبدا - بيت الوسط.
 

شهيرة تلك الصورة المثيرة للجدل التي نشرها وزير الخارجية جبران باسيل في حزيران 2015 على صفحته على «فايسبوك»، حيث ظهر راكباً دراجة برتقالية اللون تعود للرئيس سعد الحريري في مرآب منزله في جدّة حين استضاف وفداً لبنانياً رسمياً برئاسة رئيس الحكومة آنذاك تمام سلام.


أرفق باسيل الصورة بتعليق قال فيه Ride on Hariri›s bike and see what u like «قيادة دراجة الحريري... أنظروا إلى ما يعجبكم».


الوزير وائل ابو فاعور الذي كان إلى جانب باسيل، نصحه ممازحاً بأن يستخدم تعبير «لن تحصل يوماً على ما ترغب به»، في إشارة إلى صعوبة انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، لكن باسيل أصرّ على تعليق أقلّ درامية!


صورة باسيل أثارت تعليقات، بلغ سقف بعضها التهكمي حدّاً دفع باسيل إلى حذف الصورة من حسابه. أطرف التعليقات يومها كانت «الشيخ سعد خلّاه يركب «الموتو» بس ما تركو يسوقو... خاف يخربو»!!


«الفايسبوك» يعيد نفسه، وليس التاريخ فحسب. تبدو «مشكلة» الحريري مع باسيل اليوم شبيهة بهذا التعليق الساخر، والتي بشكل أساسي هي انعكاس لأزمة ترجمة «الأحجام» بعد الانتخابات النيابية.


باسيل، عبر رئيس الجمهورية، شريك في قيادة مفاوضات تأليف الحكومة، لكن بالطبع لن يسمح الرئيس المُكلّف لـ»صديقه» المفترض في إدارة محرّكات التأليف للانطلاق باتجاه الصيغة التي تُرضي «راكبها» المشاغب والعنيد وتحقّق طموحاته الرئاسية!


يبدو المشهد غايةً في التناقض بين مرحلة 2015 واليوم. قبل ثلاث سنوات كانت خيوط التسوية الرئاسية التي تُحاك بأنامل «الصَبر» العوني بدأت تقرّب «الشيخ سعد» شيئاً فشيئاً من الشخصية الرقم 2 في «التيار الوطني الحرّ» بعد ميشال عون. بالتأكيد لعب نادر الحريري دوراً أساسياً في تقارب مهّد بطبيعة الحال، وسط «تفرّج» المملكة العربية السعودية وعدم ممانعتها وغض نظر دولي، إلى وصول عون إلى قصر بعبدا.


أولى الضربات الفعلية التي تلقّاها الحريري بالسماح لباسيل بالصعود الى «دراجته الحكومية» ولادة حكومة العهد الاولى، حيث خَسِر فيها «تيار المستقبل» العديد من الإمتيازات: تكريس بقاء وزارة المالية بيد الطرف الشيعي، تحجيم الحضور الوزاري لـ»الزرق»، إذا ما قورن بحصة العهد وحلفائه التي وصلت الى 17 وزيراً، دخول شخصيات مستفزة لـ»الشيخ سعد» كسليم جريصاتي ويعقوب الصرّاف إلى حكومة برئاسة الحريري... وتوالت النكسات وسط «موجة» من التحليلات، وأحياناً الوقائع، كانت تشير إلى حجم التنازلات التي يقدّمها الحريري لفريق العهد من أجل أن يبقى على رأس رئاسة الحكومة. وهي تنازلات قادت العديد من قيادات «المستقبل» الى رفضها، علناً وسراً، وعقد «خلوات» في محاولة للحدّ من آثارها السلبية على «زعيم» الطائفة.


الساعات الأخيرة قبل الإعلان عن ولادة «حكومة حلب»، كما سمّاها فريق 8 آذار آنذاك، شهدت لقاءً استمر ساعات طويلة بين الحريري وباسيل في بيت الوسط. يؤكّد العارفون أنّ الطبق الاساس يومها لم يكن فقط وضع اللمسات الأخيرة على التشكيلة الحكومية بل قانون الانتخاب، وتُرجم ذلك فوراً من خلال كلمة الحريري عقب إعلان التشكيلة الوزارية.


هو القانون نفسه، بتركيبته ثم اللوائح الانتخابية التي رُكّبت على قياس ما يمكن أن «يدرّه» من نواب لمصلحة الطرفين، الذي شكّل أحد نقاط التباعد لاحقاً بين حليفي «التسوية» وصولاً الى الكباش المباشر في مرحلة ما بعد تكليف الحريري.


طوال عمر التسوية، كانت أصوات داخل «المستقبل» على مسمع من الحريري تنبّهه الى «الثمن» الذي يدفعه، برغم كل الحملات التي حاولت الترويج لـ»بيزنس» وصفقات وتنسيق «فوق العادة» بين «التيارين» على طاولة مجلس الوزراء، تُظهره بموقع رئيس الحكومة «القوي». الثمن الأكبر، برأي هؤلاء، خسارة جزء من جمهور «المستقبل»، تُرجم فعلاً في الانتخابات، ومجاهرة نواب محسوبين عليه بعدم رضاهم عن سياسته.


آخر مظاهر التقارب العلني بين الحريري وباسيل رُصد خلال جولة الأول الشمالية قبل أيام من الانتخابات النيابية في أيار، تحديداً في الكورة والبترون، حيث بدا مندفعاً في دعوة المناصرين السنّة الى إعطاء صوتهم التفضيلي لـ»صديقي جبران».


عملياً، إنتهت معركة الحريري في دائرة الشمال الثالثة بخسارة مدوّية لم يكن يتوقعها بسقوط نقولا غصن في الكورة، كما يقول القريبون منه.


في زحلة أيضاً حمّل الحريري باسيل مسؤولية خسارة المقعد الأرمني على لائحته بسبب المال الذي أغدقه المرشح على لائحة تكتل «لبنان القوي» ميشال ضاهر، وتمكّن من خلاله من «الاستيلاء» على عدد من أصوات السنّة. لاحقاً، تكفّلت مفاوضات تأليف الحكومة والسقوف العالية لباسيل في توسيع رقعة التباعد بينهما.


أول معركة خسرها الحريري فعلياً كانت «حكومة الـ 24». المطلب نفسه الذي حاول تسويقه في حكومة العهد الاولى، فاصطدم بممانعة واضحة من عون وباسيل بسبب الرغبة في تكريس «كتلة العهد» التي بلغت 9 وزراء، والتي لم يكن بالإمكان فرضها في حكومة من 24 وزيراً.


يقول قريبون من الحريري إنّ «الرئيس المكلّف يحاول فقط أن لا يكرّر أخطاء المرحلة السابقة، وأن «يحمي» حكومته ونفسه. يومها كان رئيس أكبر كتلة نيابية، تتجاوز كتلة العهد اليوم، ونال 7 وزراء (5 سنّة ومسيحيان). اليوم لا يستطيع أن يستمر بما فرضته مقتضيات التسوية الرئاسية عليه سابقاً والتي كادت «تكبّله».


لا يرون في هذه الخطوة «الدفاعية» إملاءات سعودية على الحريري «وإلاّ لكنّا رأينا نسخة متشددة أكثر بكثير من سعد الحريري. واقع الأمر، وإذا كانوا فعلاً يطالبون بترجمة الانتخابات النيابية، عليهم أن لا «يسوّقوا» لمن لم يبلغ «العتبة» الحكومية كي يستحق التوزير، بغض النظر عن لغة المعايير»!


باعتراف مرجعية بارزة جداً، بدأ الحريري يستعيد «وعيه» السياسي لناحية التمسّك بمكتسباته السياسية والدستورية بعد التكليف الثاني في عمر العهد. لم يحصل ذلك إلاّ على حساب إحدى أهمّ ركائز التسوية الرئاسية داخلياً: علاقته الشخصية مع جبران باسيل، بعد إزاحة نادر الحريري.


لن يكون كلام وزير الداخلية نهاد المشنوق مؤخّراً بشأن انتهاء شهر العسل بين «التيار الوطني الحرّ» و»المستقبل» تفصيلاً بسيطاً. حكومة «تطبيع العلاقة مع سوريا»، التي ستولد بعد تنازلات متبادلة على الأرجح من الأطراف المتنازعة، قد تتكفّل وحدها بتسريع «معاملات الطلاق»، إلا إذا شكّل مشروع إعادة إعمار سوريا «إنعاشاً» للتسوية الرئاسية!