لم تُعرف حتى الآن القرارات السرّية المتعلقة بسوريا وسواها، التي اتّخذها الرئيسان دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في قمّة هلسنكي. ويتردّد أنّ استياءً يسود عدداً من الدوائر في واشنطن، بسبب عدم قدرتها على خرق الجدار الفولاذي الذي أراد الرئيسان إحاطة القرارات به. وثمّة اعتقاد لدى بعضها أنّ بوتين هو المستفيد الأوّل من هذه السرّية، لأنّ القمّة انتهت بالاعتراف بموقع قوي لروسيا في الملفّ السوري.
 

يتقاطع عدد من المحللين السياسيين على أنّ عمق الاتفاق في هلسنكي هو المقايضة الآتية: تنسحب الولايات المتحدة من سوريا، وفي المقابل ينسحب الإيرانيون والقوى الحليفة لهم، وأبرزها «حزب الله»، ويتمّ التسليم بنفوذ الرئيس بشّار الأسد على الرقعة الأوسع من سوريا، بما فيها المنطقة الجنوبية المحاذية لإسرائيل. وتكون موسكو هي القوة الدولية الراعية للتسوية بجوانبها العسكرية والأمنية والسياسية والاجتماعية، وهي تضمن استمرارَ نظام الأسد، بموافقة إقليمية ودولية شاملة، أي عربية وإسرائيلية وتركية وأوروبية وأميركية، وتستخدم رصيدها لإقناع إيران بالتزام ضوابط التسوية المقترحة.


وفق بعض المصادر، سينفّذ الأميركيون انسحاباً لقواتهم من مناطق انتشارهم في الشمال الشرقي، وسيتولّى زمام الأمور هناك جيش الأسد، شرط خروج إيران والقوى الحليفة من سوريا.


وما يُطلَب في الشمال ينطبق أيضاً على الجنوب، حيث إنّ الإسرائيليين يشترطون منع أيَّ حضور عسكري لإيران وحلفائها في المناطق المحاذية أو الواقعة ضمن هامش الصواريخ الإيرانية، ويطالبون بإعادة الوضع إلى ما كان عليه منذ ما قبل الحرب السورية، أي تسليم الأسد زمام المنطقة.


ففي ظلّ هذا النظام، شهدت المنطقة حالاً دائمة من الهدوء النموذجي منذ توقيع اتفاق فصل القوات عام 1974. ويطالب الإسرائيليون اليوم بإعادة الاعتبار إلى هذا الاتفاق.


إذاً، إذا انطلق الحلّ الروسي - الأميركي فسيكون الإيرانيون وحلفاؤهم أمام استحقاق حتمي بين خيارين:

1- مواجهة التسوية الأميركية - الروسية، المغطّاة إقليمياً ودولياً، ومحاولة إحباطها وتثبيت المعادلات القائمة حالياً.

2- الانحناء أمام العاصفة لإمرارها بالحدّ الأدنى من الخسائر في الظرف الصعب. ويعني ذلك عملياً الدخول في مساومة مع الحليف الروسي لعلّه يضمن لطهران مستوى معيّناً من المصالح في اللعبة. ففي النهاية، بقاء الأسد هو هدف إيراني استراتيجي، مثلما هو هدف روسي.


والإيرانيون وحلفاؤهم بذلوا التضحيات الكبرى منذ بداية الحرب لمنع انهزام الأسد. ولذلك هم يريدون أن يكون لهم ولحلفائهم موقع متقدّم في التسوية السورية المقبلة. والأهمّ هو أن يبقى نظام الأسد جسر عبور لهم من طهران فبغداد إلى بيروت.


الأرجح أنّ العقل الإيراني البراغماتي يدرك جيداً أنّ من الصعب إسقاط تسوية أميركية - روسية، تحظى برضى إسرائيل، إذا لم تستطع طهران إقناع أحد القوى الثلاث أو إغراءها للتخلّي عن هذه التسوية. والمقصود هنا إغراء روسيا طبعاً، لأنّ إغراء الولايات المتحدة أو إسرائيل يتطلب دفع أثمان غالية جداً يصعب على إيران تقديمها.


إذاً، سيختار الإيرانيون مفاوضة روسيا من موقع الحليف، بل الشريك. وعلى الأرجح، سيجد بوتين أنّ من مصلحته الاحتفاظ بثقة طهران والتحالف معها. وسيحاول الحفاظ على مقدار معيّن من الدور والمصالح الإيرانية في التسوية الآتية، في ظلّ نظام الأسد. لكنّ هذا المقدار مضبوط بالسقف الذي تسمح به الولايات المتحدة وتوافق عليه إسرائيل.


وكان لافتاً «تطمين» السفير الروسي في إسرائيل، أناتولي فيكتوروف، إلى أنّ «السيطرة على الحدود السورية مع إسرائيل ستكون فقط للجيش النظامي السوري ولن تكون هناك تشكيلات خاصة لإيران أو لحلفائها»… مع تأكيده، في المقابل، أنّ «من غير الواقعي أن تطلب إسرائيل سحبَ القوات الإيرانية من كل سوريا في الظروف الحالية». وهذه الإشارة الأخيرة تعني أنّ الروس ليسوا مستعدّين لمواجهة مع إيران في سوريا، وإن كانوا راغبين في الوفاء بتعهّداتهم للأميركيين.


وتُساور الإيرانيين شكوك في أنّ روسيا أبرمت اتفاقاً، بعيداً من الأضواء، مع تركيا لإبعادهم عن الشمال السوري. وهذا ما أثار حفيظتهم. ولذلك، هم تشدّدوا في ما يتعلق بوجودهم العسكري هناك، ووجود حلفائهم ومنهم «حزب الله»، ورفضوا الطلب الروسي الانسحاب من مواقع مهمّة في الشمال والوسط. ويحافظ الإيرانيون وحلفاؤهم على نحو 30 ألف رجل يتوزّعون في بعض أرياف حمص وباديتها وبعض أرياف حماه وحلب ودمشق والقلمون ومناطق الجنوب.


ويحاول بوتين من جهته إغراء إيران وتعويضَها خروجَها من سوريا، بعروض مالية ضخمة. وهو أبلغ الى مستشار المرشد الأعلى، علي أكبر ولايتي، خلال زيارته موسكو قبل أسبوعين، أنّ روسيا مستعدة للاستثمار في قطاع النفط والغاز الإيراني بنحو 50 مليار دولار.


وأراد بوتين تطمين طهران الى أنّ روسيا ستحلّ محلّ الشركات الأوروبية التي أعلنت خروجها من إيران، خوفاً من العقوبات الأميركية. ويمكن أن تضاف الاستثمارات الروسية إلى اتّفاقات نفطية وقّعها بوتين مع الإيرانيين، خلال زيارته طهران العام الفائت، وقيمتها نحو 30 مليار دولار.


إذاً، تبدو مهمّة الرئيس الروسي دقيقة. فهو يريد أن يبرهن للأميركيين والإسرائيليين والقوى العربية الداعمة للتسوية أنه قادر على حلّ أزمة الانتشار العسكري الإيراني في سوريا، لكنه لا يريد أن يخسر ثقة الحلفاء الإيرانيين فيه. وعند هذه النقطة تدور المساومة بين موسكو وطهران، تحت أنظار الآخرين جميعاً. فحتى ترامب يفضّل حلّ الأزمة مع الإيرانيين في سوريا بالحدّ الأدنى من التوتر، حرصاً على مناخ التسوية.


هل تنجح «تسوية هلسنكي» بشقّها السوري فتُبدِّل المعطيات الشرق أوسطية جذرياً؟


البعض لا يلغي المفاجآت السلبية من حساباته، ويقول: «لا تنسوا أنّ إيران و»حزب الله» يلعبان «صولد» عند الحاجة. وقد يعمدان إلى التصرّف على طريقة «عليّ وعلى أعدائي» إذا شعرا بأنهما مقبلان على خسارة».


لكنّ غالبية المحلّلين السياسيين يستبعدون هذا الاحتمال ويقولون: «لا أحد يحترف البراغماتية كإيران و»حزب الله». وفي اللحظة المناسبة سينحني الإيرانيون للعاصفة لكي تمرّ وتخلط الأوراق مجدداً. وليس مستبعَداً أن يضع «حزب الله» فكرة انسحابه العسكري من سوريا على الطاولة، خياراً محتمَلاً أو ثانياً (Plan B). فالمهمّة العسكرية الأساسية التي من أجلها ذهب «الحزب» إلى سوريا، أي منع سقوط الأسد ومناطقه، تحققت تماماً، وكانت أكلافها عالية على «الحزب». وتبقى اليوم مهمة إثبات الحضور، أي تثمير المهمة سياسياً. وهذا أمر آخر، وقد لا يجد الإيرانيون و«الحزب» مانعاً في أن يتحقّق بوسائل أخرى.


الملف السوري يقترب من تطورات مفصَلية. ومفاوضات سوتشي في اليومين الأخيرين ربما تؤسس لتسوية قابلة للحياة، بمشاركة الروس والإيرانيين والأتراك. وبعدها سيتّضح الاتّجاه: هل ستخرج إيران وحلفاؤها من سوريا، وفي طليعتهم «حزب الله» خلال الأشهر القليلة المقبلة، أي قبل نهاية السنة؟ وبأيّ شروط؟


في 2006، رفع «الحزب» راية النصر على إسرائيل وقَطَف الثمار سياسياً في الداخل. فأيُّ ثمار قد يقطفها من عودته منتصراً في الحرب السورية؟ وتالياً، ما التردّدات السياسية لقرار «الحزب» في الداخل اللبناني، بدءاً بملفّ الحكومة الموضوع على النار؟