بعد اسبوع تقريباً على قمّة هلسنكي أطلقت موسكو وفودها الديبلوماسية في كل الإتجاهات، فرئس وزير خارجيتها سيرغي لافروف الوفود الى تل أبيب وباريس وبرلين، وعهد الى موفد الرئيس الروسي الى دمشق والديبلوماسيين والعسكريين الكبار لزيارة سوريا ودول الجوار، تزامناً مع مخاطبة مجلس الأمن الدولي لإطلاق عملية إعادة النازحين السوريين الى بلادهم. فلماذا تجاهلت موسكو في حراكها عواصم الخليج العربي؟
 

لم يُعلن بعد عن زيارة أيّ وفد روسي لأيٍّ من عواصم مجلس التعاون الخليجي من أجل التسويق للمبادرة الخاصة بإعادة مليون و700 ألف نازح سوري الى بلادهم، والتي وُلدت من رحم القمّة الأميركية ـ الروسية الأخيرة في هلسنكي.


وكل ما دلّت اليه الورشة الديبلوماسية ـ العسكرية التي اطلقتها موسكو انها غطّت معظم دول اوروبا والجوار السوري قبل أن تكون ملفاً مستقلّاً على طاولة مؤتمر سوتشي لأطراف مسار أستانة امس الذي بحث في الجوانب الإنسانية من الأزمة المؤدّية الى عودة النازحين والخطط النهائية لنفوذ الدول الضامنة، وذلك في حضور وفود رفيعة من أنقرة وموسكو وطهران وممثلين عن الحكومة السورية والمعارضة، اضافة الى مراقبين من الأمم المتحدة والأردن والولايات المتحدة. علماً أنّ هذا الملف سيكون مطروحاً في قمّة «البريكس» التي ستنعقد في جنوب افريقيا قريباً.


وهذا الحراك قد يتحوّل «خطة دولية» سواءٌ تمّ التوصّل الى الحلّ السياسي أم لا. فوجود المساحة الكافية من المناطق الآمنة يشكّل دافعاً لهذه الخطة، حتى ولو استندت في مرحلتها الأولى الى عمليات «إسكان» في مراكز الإيواء الموقتة التي ستُحدث ويمكن أن تُستكمل بإعادة النازحين الى مدنهم وقراهم المدمّرة متى أُعيد بناؤها.


وثمّة مَن يعتقد انّ روسيا التي كُلّفت هذه المهمة بتفويض اميركي ستحظى قريباً بالتفويض الدولي. وعندما يقرّر الجبّاران السير في خطة ما، لن يكون هناك مَن يعرقل مسارَها، والتجارب في هذا المجال كثيرة ومتعددة، إذ طالما أنهما يقودان محورَين دوليَّين لا بد من أن يتحقق ما يريدانه ولو بعد حين.


ومن هذه المنطلقات، لا بد لأيِّ مراقب ديبلوماسي أو عسكري، وعند سعيه الى استشكاف المراحل المقبلة، من التوقف عند المرحلة الآتية الخاصة بإعادة البناء في سوريا الجديدة وحجمها ومداها، ومَن سيكون له الدور الريادي فيها. لا بل مَن هي الجهة القادرة على إدارة عملية بهذا الحجم بعدما بلغت الأرقام التي قدّرتها جهات دولية وإقليمية وسورية ما يربو على 450 مليار دولار، ما عدا حجم الديون التي ترتّبت على الدولة السورية الى الآن نتيجة ما تلقّته من أسلحة وعتاد من روسيا وإيران ودول أُخرى ما زال دورها في تعزيز القدرات العسكرية للدولة السورية بعيداً من الأضواء.


وتتحدث تقارير ديبلوماسية وإستخبارية عن جهود تُبذل بعيداً من الأضواء تحضيراً لمرحلة اعادة الإعمار. فالمؤتمرات التي تُعقد في سوريا ليست يتيمة بل ثمّة مؤتمرات أخرى اكثر أهمية تعقد في مجموعة من العواصم والمؤسسات الدولية لوضع السيناريوهات المحتملة لإعادة الإعمار بعد دخول مرحلة الحلّ السياسي للأزمة. ويقال إنّ هناك تحضيرات روسية أوحى بها الرئيس فلاديمير بوتين لكي يكون حاضراً لقيادة عملية اعادة الإعمار. فالوجود العسكري الروسي في سوريا لم يعد عابراً وتحوّل حضوراً طويل الأمد بنتيجة التفاهمات التي ربطت بين الدور العسكري لموسكو وما سيكون عليه دورها الإقتصادي والإعماري في المرحلة المقبلة.


وفي هذا السياق تحدّث تقرير عن نجاح بوتين في إقناع مئات رجال الأعمال وقادة الشركات الروسية العابرة للقارات من اصل 4000 ملياردير روسي بالموافقة المسبقة على المشاركة في عملية الإعمار السورية، فهؤلاء يمتلكون ثروات تزيد على مئات المليارات من الدولارات وهم موزعون في روسيا والعالم، وتخصيص الحدّ الأدنى من ثرواتهم للمشاركة في هذه العملية ولو بـ 10 مليون دولار لكل منهم سيصار الى جمع 40 مليار دولار في المرحلة الأولى، وهو رقم بات مضموناً ودفع بوتين الى تجاوز النظريات التي تحدثت عن عوائق اقتصادية وصعوبات مالية من شأنها أن تحدّ من طموحاته العسكرية في سوريا وتحول دون مضيّه في عملياته الكبيرة والشاملة التي قادها على اكثر من محور.


وثمّة مَن يجزم أنّ بوتين تجاهل عمداً إشراك دول الخليج العربي في عملية اعادة النازحين السوريين وقد يكون ذلك مؤشراً الى ما ستكون عليه طبيعة العلاقة بين روسيا وهذه الدول مستقبلاً. وقد يعلن بوتين عن ذلك صراحة في وقت لاحق لجهة عدم الحاجة الى مشاركة هذه الدول في عملية إعادة إعمار سوريا وهو ما يتلاقى عليه مع القيادة السورية التي تعلن أنها ستكون لها خيارات محدودة في دعوة المستثمرين الدوليّين المشاركة في إعادة الإعمار لأن لديها خيارات تُبعد الخليجيين عنها الى الحدود القصوى. فدمشق تتحدث من الآن عن حجم الشركات العملاقة الصينية والكورية بعد الروسية وغيرها من الشركات الدولية العابرة للقارات وربما الأوروبية منها.