لقد كرَّس في زماننا الكثيرون ـ إلا من رحم ربي منهم وهم قلة من أهل الله ـ من المنتفعين أنفسهم لخدمة السلطان السياسي وبعضهم من يقبل يده ويعتبره ظل الله على الخلق والأرض
 

عندما تسلِّط الضوء على مسلك علماء جبل عامل في الماضي، وخصوصاً العلماء الكبار والمراجع الذين يملكون وزناً وعلماً وورعاً وخوفاً وزهداً، تنحني إجلالاً واحتراماً لما يمثلون من تعاليم أهل البيت (ع) ومع تلك الحياة المتواضعة فلا بوَّاب ولا حُجَّاب ولا سيارات فخمة وبنايات ضخمة وعقارات ومسابح وأطنان من الذهب والدولارات، كانت هذه التعاليم من السبل الواضحة التي يصل بها الإنسان إلى العظمة المطلقة التي تتخطى حدود الأمصار والأزمان لأنها كالشمس فوق الحدود جميعاً..

سأذكر مثالاً قد يغني عن صفحات طويلة عن سلوك هؤلاء العلماء، ذكره العلامة السيد محمد حسن الأمين في كتاب (أمالي الأمين) لفضيلة الشيخ العزيز محمد علي الحاج، والنص لسماحته: (في أواخر القرن التاسع عشر، وربما في عهد المرحوم كامل الأسعد "الجد"، تعرَّض أحد الفلاحين في تلك الأيام لظلمٍ واضحٍ من أزلام ذلك الزعيم، فلجأ إلى العالم المعروف في وقته السيد نجيب فضل الله، وهو عالم كبير، فكتب السيد رسالة قاسية اللهجة إلى كامل الأسعد، عنونها بـ "طاغية البلاد وجرثومة العباد"،وتضمنت قسوة واضحة تجاه هذا الزعيم، وإنذار له بوجوب إنصاف الرجل المظلوم، طبيعي أن يغضب الزعيم، ولكن ماذا يصنع مع عالمٍ بحجم السيد نجيب فضل الله،.. ففكر – كما يفعل السياسيون – أن يستعين عليه بعالم آخر يوازيه علماً وتقوىً، وربما يتفوق عليه في موقعه النافذ في أوساط العلماء العاملين، وهو العالم السيد علي محمود الأمين، وكان الأسعد على صلة طيبة بالسيد علي محمود الأمين، فجاء من موقعه في بلدة الطيبة،حيث مقر حكمه وسكنه، واتجه إلى بلدة شقراء، ووفق الدبلوماسية المعروف بها، نزع حذاءه قبل الدخول إلى دار السيد علي، ودخل إلى ديوانه، وقبَّل يده، ثم توجه كامل الأسعد للسيد قائلاً: يا سيدي ما رأيك بي،وبخدماتي ودوري الذي أقوم به؟ فكان جواب السيد أن امتدحه بطريقة لا مبالغة فيها، ودعا له بالتوفيق، فمدَّ يده إلى جيبه وتناول له الرسالة المرسلة له من السيد نجيب فضل الله، بقصد إثارة استنكاره، مما يمهَّد للزعيم أن يؤذي السيد نجيب تحت غطاء شرعية السيد الأمين..

إقرأ أيضًا: الحوزة بين الكلاَّس والطحَّان !

فما كان من السيد الأمين إلا أن قطَّب حاجبيه، وأدار وجهه عن كامل الأسعد، فقال كامل: ما رأيك يا سيدي بهذا؟ أجابه: إذا كان هذا رأي السيد نجيب فضل الله بك فنحن مع رأي السيد، فقال له: ماذا أصنع؟ أجابه: لكي نرضى منك عليك أن تذهب من هنا "شقراء" إلى عيناثا، معتذراً ومتسامحاً وطالباً الغفران من السيد، وتنفيذ أوامره بشأن القضية التي ارتكبها أتباعك، فما كان من كامل الأسعد إلا أن قام بذلك فعلاً، فذهب إلى السيد نجيب، وطلب منه العفو والمسامحة، وطلب من أنصاره الإنصاف..) انتهى..

لقد كرَّس في زماننا الكثيرون ـ إلا من رحم ربي منهم وهم قلة من أهل الله ـ من المنتفعين أنفسهم لخدمة السلطان السياسي وبعضهم من يقبل يده ويعتبره ظل الله على الخلق والأرض، ويحاول أصحاب الطرابش تقديم صورة مثالية عن مواقفهم وزهدهم وورعهم وخوفهم من خالقهم، وعن أدوارهم الأخلاقية والإصلاحية في الورشة الشيعية، فإنه يستدعي التوقف ملياً أمام ظاهرة رجال الدين وخصوصاً الموظفين منهم، وما فاض منهم من ترفٍ مالي ووظيفي واجتماعي وحزبي، ومن مصادرة سياسية جعلت المجتمع معلباً بعلب حزبية مغلقة ومختومة بختم الجهل، وإن هذه التجربة كشفت الكثير من هؤلاء الدعاة المفتين والمفتنين المرتدين لأمساح الصلبان المذهبة،إنهم لا يبصرون من أمامهم إلاَّ كرسياً من صنع سمسار سياسي باسم العمة والجبة والدين، ومن هوس نفسي مريض،إنهم موضة دينية وبضاعة سياسية مزجاة، فحبذا لو يكتفي الداعون إلى السماء بالوصول إليها، ويتركون الأرض لأهل الأرض إلى الذين لا تلهيهم تجارة أو بيع عن ذكر الناس...