من الصعوبة بمكان الإسترسال في تقدير حسابات المراوحة والحلحلة في موضوع التشكيل الحكومي بالنسبة إلى الأيّام الماضية. الأمل بالتشكيل قبل عيد الجيش الذي ارتفع في بحر الأسبوع الماضي تضاءل في عطلة نهاية الأسبوع. مع هذا، من السابق لأوانه بعد قول أي شيء حاسم بالنسبة إلى إمكانية التوصّل إلى حلحلة نهائية في الأيّام المقبلة. مراراً خبرنا في السابق هذا النوع من التأزيمات التي تصل إلى طرق مسدودة ثم تبتدع حلول لها بعد ذلك. الأوضح في المقابل، أن الأمور ما لم تعالج بسرعة وبما يفضي للخروج بتشكيلة في الأيّام المقبلة، فإنّها ذاهبة إلى تعقيدات تتجاوز نوعياً تلك التي تطبع مرحلة ما بعد الإنتخابات النيابية، حتى الآن.

بالحصيلة، نحن نكتشف شيئاً فشيئاً نتائج التقاطع بين نتائج الإنتخابات داخلياً وبين التحوّلات الخارجيّة، من قمّة هلسنكي حتى متاهة الوضع في سوريا. هي مرحلة مطبوعة من ناحية بالمبادرة الروسية لإلتقاط مسألة عودة اللاجئين السوريين والتحرّك بها بجديّة وبمروحة إتصالات واسعة وأفكار عملية آخذة في التداول، علماً أنّ أي إقلاع في ملف اعادة اللاجئين يرتبط برسم خارطة طريق لملف إعادة إعمار سوريا وهذا يحيل بدوره على المسألة السياسية. هذا الثلاثي (عودة اللاجئين، اعادة الإعمار، الحل السياسي الإنتقالي) يتعارض بحد ذاته، في منطقه على أقل تقدير، مع إستمرار النظام الأسدي. وفي المقابل، وبالعكس من هذا المنحى الأوّل، هي مرحلة تتوسع فيها رقعة سيطرة قوات النظام الأسدي بالشكل الذي تبرز أكثر فأكثر واقعية الخشية من أن يطلّ برأسه أو بأذرعه إلى الداخل اللبناني، وهو لن يعدم الوسائل والأساليب والأوراق. المنحيان متعارضان حتماً، منحى إعادة اللاجئين والإعمار والتسوية السياسية السورية، ومنحى إعادة وقوف النظام على قدميه ومسعى عودته إلى المعادلة اللبنانية. لكن التعارض بين هذين المنحيين لا يمكن أن يحل ببساطة أو بسرعة، وسيفرض هذا التعارض نفسه لفترة. لا يمكن فهم طبيعة مرحلة ما بعد الانتخابات لبنانياً، وموجة التوتر والتصلب الأخيرة، بمعزل عن هذه المعطيات والمناحي المتصلة بسورية، بإتجاهيها المعاكسين هذين.

مثلما لا يمكن مقاربة المسارات السياسية المحلية على قاعدة تهميش الإطار المحلي الصرف للمشكلات، كذلك لا يمكن الآن تحديداً التقليل من آثار لحظة «إعادة الحسابات» إقليمياً. يبقى أنّ ما هو مجهول في الوقت الحالي هو هوية الأطراف الخارجية التي يمكن أن تكون مبادرة لرعاية التسويات والتوافقات مجدّداً، والتمديد في حالة الإستقرار النسبي، ولو الهش، ولو الجزئي، الذي نعيشه، بخلاف باقي المشرق العربي منذ سنوات.

حتى الآن، يظهر العامل الإقتصادي، بهواجسه ومخاوفه، وبالتحديات المالية الإصلاحية وروزنامتها بالنسبة إلى لبنان، كعنصر أساسي في صالح التسريع بالتشكيل، وتخفيف التصلّب، والبحث عن مخارج عملية مقنعة للمسألة الحكومية. لكن هذا العامل الاقتصادي لوحده لا يكفي، خصوصاً هذه المرة، لضمان سرعة التأليف وتفادي قطوع التعطيل المزمن أو المواجهات الصاخبة مرة أخرى. فهل ثمة، بالتواشج مع هذا العنصر الاقتصادي الضاغط للتشكيل، عناصر سياسية تقوي من حجة هذا الضغط وتدفع بالأمور إلى حيث تسهيل الولادة العسيرة للحكومة العتيدة؟ هل ثمّة رأي عام ضاغط في لبنان اليوم من أجل الحيلولة دون التعطيل، ودون المواجهات وخطابياتها، ومن أجل استصلاح التسويات والتيقظ من «رجعة» النظام الأسدي في نفس الوقت؟ من الصعب الإستدلال على ذلك في المشهد الذي آلت اليه الأمور بعد الإنتخابات، كما أنه وحتى هذه اللحظة، ما زالت هناك مساحة لـ«تهريب تسوية» ربع الساعة الأخير، بل قُل «ما بعد الأخير». يبقى أنه، حتى لو تجاوزنا هذا القطوع الفرعي، اي التشكيل الحكومي، فأساسات الحياة والعمل السياسيين في البلد مصابة بالتصدع.