وصلت إيران إلى أقصى ما يمكن أن تصله في انتشارها العسكري ونفوذها السياسي في المنطقة العربية، حيث لم تتوقف القيادة الإيرانية منذ سنوات عن تكرار القول بأن أربع عواصم عربية باتت تحت سيطرتها، هي عواصم لبنان وسوريا واليمن والعراق. ورغم ذلك فإن هذا الحضور يعاني في الوقت الحاضر أقصى حالات الهشاشة والضعف، بسبب فشل إيران في تحويل هذا الإنتشار والواقع المفروض إلى واقع سياسي مشروع يحمل عمقاً اجتماعياً وقوة اعتراف دولي وإمكانية إستمرار تاريخي راسخ.  

  كان طموح نظام ولاية الفقيه منذ بدايات تأسيسه مد نفوذه وتأثيره داخل المجال العربي تحت عنوان تصدير الثورة. أي عمد إلى تغيير ترتيب سياسي قائم  وتثبيت ترتيب سياسي آخر. لكنه تغيير فشل في إحداث اختراقات راسخة داخل المجتمع العربي والثقافة العربية، حيث ظلت فكرة الولاية وأدبيات الثورة الإيرانية غريبة على بنية المجتمع العربي وأطر وعيه. وهو فشل دفعها إلى التعويض عنه بتحريك المكونات الشيعية التي تشاركها المعتقد الإمامي، عبر تعبئة مذهبية مؤدلجة وتسليح عسكري. أي خلق بؤر أمنية وجماعات مؤطرة تأطيراً ثقافياً خاصاً وروابط اجتماعية غريبة عن نسيج البيئة المحلية.

  لجأ النظام الإيراني إلى الخيار العسكري بعد فشل محاولاته إحداث اختراق ثقافي واجتماعي وسياسي داخل المجال العربي، وعمد إلى تحويل العقيدة الإمامية عقيدة قتالية أيديولوجية أساسها وعمدتها الولاء المطلق للولي الفقيه بعدما كانت، أي عقيدة الإمامية، تقوم على توجيهات تقوية وأخلاقية، وتعتبر السلطة والسياسة خارج مجال اهتماماتها في زمن غيبة الإمام الثاني عشر. أي اعتبار السلطة المشروعة التي تتطابق مع قيم الدين مرجأة ومؤجلة، والتعامل مع السلطة القائمة من باب الاستجابة للضرورات الحياتية، أي سلطة الأمر الواقع التي لا بد منها لانتظام المجتمع.  لذلك وبدلا من أن يكون المجال العربي بالنسبة لإيران مجال حضور ثقافي وحراك فكري ودعم نهضوي وتواصل مجتمعي وتبادل خبرات، صار المجال العربي بالنسبة للنظام الإيراني حقل تبشير مذهبي وساحة جهاد مقدس وطريق غلبة أو تغليب طرف على طرف بقوة السلاح.

نجحت إيران في خلق معطى واقعي يفرض نفسه بقوة السلاح، لكنها فشلت في انتزاع مشروعية حضور قوامها في زماننا المعاصر الاعتراف الدولي به والعمق الاجتماعي الذي يوفر تأييداً واحتضانا شعبياً.  بل تجد أن هذا الحضور ظل محل رفض وإدانة دوليين ، ومحل جدل وتجاذب محليين وحتى صراعات داخلية تسببت في أكثر الحالات بزعزعة المجتمعات المحلية وتقويض كياناتها السياسية وتشتيت هويتها الجامعة. هو فشل جعل الحضور الإيراني هشاً  ومعرضاً للزوال عند أي تغير في معطيات القوة الداخلية وموازينها الدولية.

نلمس هذا بوضوح في اليمن بعد ميل الكفة العسكرية لصالح التحالف العربي، وفي العراق مع التململ الشيعي العراقي المتزايد من نموذج العسكرة الإيرانية للحياة السياسية. أما في لبنان فإن نفوذ حزب الله في الدولة لم يتعدى حصته الشيعية البسيطة التي يتقاسمها مع حركة أمل على الرغم من ضخامة ترسانته العسكرية، بل أدت العقوبات والملاحقة الأمريكية له إلى حرمانه من استلام أية وزارة سيادية. ما يعني عدم التوازن والتكافؤ بين قدرات وإمكانات حزب الله ومكانته في التأثير في القرار السياسي اللبناني.

أما سوريا فقد برز معطيان خطيران:

أولهما: قمة هلسنكي التي جمعت ترامب وبوتين، ووضعت أطاراً دولياً ناظماً للحل السوري بات إنهاء الوجود الإيراني وتحجيم التنظيمات التابعة لإيران شرطه الأول، وهيكلة النظام السوري وبنيته العسكرية وضبط أدائه السياسي برعاية روسية تضمن جميعها أمن إسرائيل شرطه الثاني.  ما يدل على مقايضة إسرائيلية-أمريكية وحتى عربية خليجية مع الروس بتثبيت نظام الأسد والاعتراف بالدور الروسي الراعي لمستقبل سوريا، مقابل مسعى روسي جدي بإنهاء الوجود الإيراني في سوريا وتطهير مؤسسات النظام السوري الأمنية من التغلغل والإختراق الإيراني الحاصلين فيه. وهو مسعى قد يحصل بدعم وإسناد عسكري أمريكي وإسرائيلي إذا لزم الأمر.

ثانيهما: مطالبة الروس المتكررة بضرورة خروج جميع الميليشيات الأجنبية من سوريا في إشارة واضحة إلى الوجود الإيراني والميليشيات التابعة له.  وهو مطلب يدل من جهة على المسافة التي يرسمها الروس من الوجود الإيراني وطريقة أدائه داخل سوريا وبالتالي المسافة التي بدأت تظهر بين إيقاع النظام السوري نفسه والنظام الإيراني.  ويدل من جهة أخرى على رفض الروس تحويل دمشق عاصمة ملحقة بطهران ورغبة روسية في إخراج سوريا المستقبل من محور الممانعة الذي جهدت إيران بأموال فائضة ودماء غزيرة في تثبيته وترسيخه وإبقاء سوريا ركناً أساسياً فيه.

الدلالة الأخطر في المعطيين المذكورين، هو أن إيران استطاعت نشر عدد ضخم من متطوعبن وميليشيات متعددة الجنسيات تابعة لها داخل سوريا، لكنها لم تستطع أن تعطي لهذا الوجود العسكري أية حقيقة سياسية أو تجذر واقعي أو تنتزع أي اعتراف بأن حضورها في سوريا جزء من مستقبل سوريا. بل تظهر المعطيات كافة أن هذا الحضور أصبح عبئاً على الحل السياسي المرتقب، بل بات خارج هذا الحل بعد تفرد روسيا وأميركا حصريا بوضع سيناريوهاته المتعددة.

اعتقد النظام الإيراني أن طاقته التعبوية وتطلعاته الأيديولوجية تمكنانه من إيجاد معطى إقليمي يفرض نفسه على العالم، ليتبين لاحقاً أن السقوف الدولية، بطاقاتها الاقتصادية وقدراتها العسكرية والتقنية، قادرة على خنق أي تلاعب بتوازناته وقواعد اشتغاله.  وصوَّر هذا النظام تورطه في الأزمة السورية، التي كانت في بدايتها أزمة علاقة بين نظام وشعب، بأنه دفاع عن مقدسات شيعية، ليصبح الدفاع عن زينب عين الدفاع عن أقسى أنظمة العالم قسوة ورعباً. كما أنه اعتبر أن ما يحدث في سوريا مؤامرة على محور الممانعة الزاحف بزخم  نحو تحرير القدس، إذا ببقاء نظام بشار الأسد يصبح مطلباً إسرائيلياً ملحاً بصفته الضامن الأكفأ لأمن حدودها.

رغم براغماتية السياسة الإيرانية، فإن النظام الإيراني بات ضحية أيديولوجيا تحولت بعد فشلها إلى يوطوبيا حالمة تصور لأصحابها الواقع وفق ما يرغبوا أن يكون لا وفق ما هو كائن. .