لم يعد ملف الكهرباء مجرد ضرورة اقتصادية وحيوية تحتاج معالجة جذرية، بل أصبح علامة فارقة يمكن اعتمادها لشرح نوعية وعمق الفساد القائم في البلد، ومؤشرا على ما هو مُنتظر في الأيام الطالعة.
 

قبل أيام، تناقل بعض رواد وسائل التواصل الاجتماعي خبر افتتاح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لثلاث محطات عملاقة لتوليد الكهرباء تعمل بالغاز، وتنتج 14400 ميغاوات سنويا. نفذت المشروع شركة سيمنز الالمانية وبلغت كلفته 6 مليارات يورو. (حوالي 7 مليار دولار).


اللافت في الخبر، اربع نقاط يمكن ان تستوقف اللبناني تحديدا، وهي التالية:


اولا- تبيّن ان المحطات الثلاث سترفع قدرة مصر على انتاج الطاقة الكهربائية بما يوفّر لها فائضا في الطاقة تقدّر نسبته بحوالي 25%، بما يمنح الدولة فرصة تصدير الفائض، وضمان توفير الحاجة لعشر سنوات الى الامام.

ثانيا- استغرقت فترة بناء وتدشين المحطات العملاقة أقل من ثلاث سنوات.

ثالثا – تعمل المحطات الثلاث على الغاز بما سيتيح توفير حوالي مليار دولار سنويا، ويسمح بوفرٍ اضافي في المستقبل من خلال استخدام الغاز المصري الذي تم اكتشاف وجوده أخيرا في مصر بكميات كبيرة.

رابعا – بدت الكلفة الاجمالية للمشروع زهيدة قياسا بالكلفة التقديرية لانشاء محطات توليد الكهرباء في لبنان.


في الانتقال الى الجانب اللبناني، بدا الخبر المصري بمثابة صفعة اضافية للسلطة السياسية المحلية، التي تنتظر منذ العام 1992 اصلاح قطاع الكهرباء، ولا تزال الامور عالقة وتراوح مكانها. وقد دفع المُكلف اللبناني حتى الان حوالي 36 مليار دولار (في 26 سنة)، وفق التقرير الذي قدمه رئيس الجمهورية الى مجلس الوزراء قبل انتهاء ولاية الحكومة الحالية وتحولها الى حكومة تصريف اعمال، من دون ان يحصل على حقه في كهرباء 24 ساعة.


واللافت في الخبر المصري بالنسبة الى المواطن اللبناني، ان مصر التي تحتل مرتبة متواضعة في لائحة الدول المتطورة، وفي لائحة الفساد، لم تنفذ مشروعا كهربائيا لتأمين حاجتها الحالية، بل اختارت مشروعا ينطوي على خطة مستقبلية لضمان توفير الطاقة للسنوات المقبلة. في المقابل، واذا عاينا مشروع الدولة اللبنانية اليوم، وهو أقصى ما تطمح اليه السلطة السياسية، فانه ينصّ على انشاء محطات توليد لا تكفي حاجة لبنان الفعلية! واذا استندنا مجددا الى تقرير رئيس الجمهورية، نرى ان المشروع القائم، والذي تتبادل القوى السياسية الاتهامات حول مسؤولية الطرف الذي فشّل تنفيذه حتى الان، ناقص وبعيد من الخطط العلمية التي تتبعها الدول في التخطيط لملفاتها الحيوية. اذ لا يجوز التخطيط لاصلاح القطاع، من خلال السعي الى تأمين 800 ميغاوات اضافية، اذا كانت هذه الكمية لا تكفي لتأمين 24 ساعة كهرباء طوال السنة. ولا يمكن القول انه بالترشيد نستطيع ان نتخطى الطلب الاضافي في الصيف، لأن مشاريع الاصلاح لا تشمل شهر آب!


الملاحظة الأخرى هي تلك المتعلقة بكلفة انشاء معامل الانتاج. وفق حسابات انشاء المعامل المصرية، واذا جرى تقسيم الكلفة الاجمالية على قوة الانتاج، يتبين ان كلفة انتاج 800 ميغاوات هي حوالي 375 مليون دولار. والسؤال لماذا ترتفع في لبنان الى حوالي 725 مليون دولار، وهذا الرقم يستند الى كلفة معمل دير عمار 2 الذي لم ير النور، والذي كان يفترض ان ينتج 538 ميغاوات، وتبلغ كلفته حوالي 480 مليون دولار.


كذلك تبرز الملاحظة المتعلقة بتوفير مصر لحوالي مليار دولار جراء استخدام الغاز بدلا من الفيول في المحطات الجديدة، وهذا الوضع يفتح الجروحات المحلية، لأن المعامل التي أنشئت لتعمل على الغاز، يتم تشغيلها على الفيول، بكلفة اضافية وبتلوث اضافي مضمون.


في الحالة اللبنانية، ملف الكهرباء فضيحة وخطيئة مستمرة منذ 26 سنة. ولا تبدو الحلول وشيكة، بدليل ان وزراة الاقتصاد بدأت تنفيذ مخطط طويل المدى لفرض تركيب عدادات للمولدات الخاصة، وقد طلبت من التجار البدء في استيراد العدادات وفق المواصفات المطلوبة، بما يوحي بأن الأزمة طويلة. طبعا، هذا الاجراء لا يعني ان الوزارة مسؤولة عن الأزمة، بل انها تحاول ان تتأقلم مع الوضع القائم، وان تقوم بواجباتها في حماية المواطن قدر المستطاع من الاستغلال الذي يتعرّض له للحصول على حقه في الطاقة.


في النتيجة، هناك شعور عام بالاحباط بعد التجربة المصرية في بناء محطات الكهرباء، لأن مصر التي يحبها اللبنانيون، ليست سويسرا بالنسبة اليهم، والأمر سيكون مختلفا لو ان المقارنة تجري مع دولة صناعية مثل المانيا مثلا، أما ان تكون المقارنة مع التجربة المصرية في الكهرباء، وتبرز هذه الفروقات، فان الاحباط اللبناني مبرّر، والسؤال الى متى سنبقى بلا دولة، سؤال مشروع وفي مكانه.