أهمّية الاتّفاق الأميركي-الروسي أنه انتزع المبادرة من النظام السوري ودوَّل الملف، ما يعني أنّ عودة النازحين لم تعد من اختصاص هذا النظام ولا شأنه،
 

الاتّفاق الأميركي - الروسي على رعاية ملف النازحين وأخذه على عاتقهما وفّر على لبنان مزيداً من المزايدات والتهويل برفض عودة النازحين ما لم يطبِّع علاقاته مع النظام السوري، وفتح الباب أمام تسريع خطوات تأليف الحكومة.
أفضل كلمة تختصر واقع الحال المتمثل بالاتفاق الأميركي-الروسي هي «إنقاذ»، حيث إنّ الأميركيين والروس أنقذوا لبنان من ملف ابتزازي كاد أن يتحوّل متفجِّراً مع إصرار النظام السوري على العبور من هذا الملف إلى إحياء العلاقات اللبنانية - السورية.


وكل الدلائل تشير الى أنّ النظام لم يكن في وارد إعادة النازحين لأسباب ديموغرافية وسياسية، ومن أهمها أنّ اللوائح التي كان يرسلها الأمن العام بالآلاف تعاد إليه ببضع عشرات، ما يعني أنّ النظام لم يكن في وارد التجاوب الفعلي، وما كان يريده هو مجرد خطوة شكلية وإعلامية حيال الروس والمجتمع الدولي بأنه يتعاون، فيما الآلية التي يعمل عليها تعيد النازحين بالقطارة، الأمر الذي يستلزم عقوداً من الزمن لإعادتهم إذا عادوا، أو سُمِح بعودتهم.


فأهمّية الاتّفاق الأميركي-الروسي أنه انتزع المبادرة من النظام السوري ودوَّل الملف، ما يعني أنّ عودة النازحين لم تعد من اختصاص هذا النظام ولا شأنه، وبالتالي تمّ رفعُ يده عن هذا الملف الذي تحوّل شأناً دولياً، وأهمّية هذا التطوّر تكمن في الآتي:

ـ أولاً، الانتهاء من نغمة التوطين والمؤامرة الدولية وأنّ لبنان متروك لقدره، وأنّ إنقاذه رهن الشقيق السوري (أي النظام) الذي يعطف ويحرص عليه، وبالتالي ما على لبنان إلّا أن يدرك مكمن مصلحته، أي النظام السوري.

ـ ثانياً، لا يفترض أن يشكّل ملف النازحين، موضوعياً ومنطقياً، أولوية لدى الأميركيين والروس في ظلّ أجندة يُفترض أن تكون حافلة بينهما وتبدأ من إنهاء النزاع السوري الذي تليه عودة النازحين ولا تنتهي مع ترسيم حدود النفوذ الإيراني. وتبعاً لذلك، فإنّ الأولوية في هذا الملف ليست لعودة النازحين كملفٍّ قائم بذاته، إنما الأولوية الفعلية هي لإنقاذ لبنان والأردن من أوضاعهما الاقتصادية والمالية ربطاً بمعلومات لدى دوائر القرار تتصل بالأوضاع الدقيقة جداً في كل من لبنان والأردن، ما يعني في المحصلة أنّ لبنان في صميم الأجندة الدولية.

ـ ثالثاً، إذا كان النظام السوري غير معني بملف النازحين، فبماذا هو معنيّ إذاً؟ والهدف من هذا التساؤل التأكيد أنه لا يوجد شيء اسمه النظام السوري، فهو موجود شكلاً، ولكنّ القرار السياسي خارجه، ويكاد يكون وضع النظام السوري اليوم شبيهاً بوضع الدولة اللبنانية إبان الوصاية السورية على لبنان، فعدا عن كون سوريا مقسَّمة إلى مناطق نفوذ تتوزّع بين موسكو وأنقرة وواشنطن وخلفها الدول العربية، فإنّ القرار الرسمي السوري هو في يد بوتين لا الأسد.

ـ رابعاً، ما ينطبق على ملف النازحين ينسحب على كل الملفات الأخرى، بمعنى أنّ سقوط التهويل في ملف النازحين سينسحب أيضاً على ملف الحدود والصادرات اللبنانية التي جاء مَن يقول إنّ عبورها الحدود السورية إلى الدول العربية سيكون مشروطاً بتواصل على أعلى المستويات، ما يعني تكرار محاولة التطبيع، ولكن هذه المرة من باب الضغط الاقتصادي على لبنان وتعبئة القطاعات الإنتاجية والصناعية ضد الدولة اللبنانية التي «تحرمهم من تصدير إنتاجهم لأسباب سياسية»، وبالتالي النظام السوري كان يحضِّر لفصل جديد من الضغط بغية تحقيق هدفه التطبيعي، إلّا أنّ ملف النازحين أظهر أنّ النظام لا يمون على شيء، وقرار الحدود كالنازحين في موسكو وليس في بيت المهاجرين.

ـ خامساً، أكثر ما أزعج النظام السوري هو انتفاء استغلاله لملف النازحين، كما أنّ ما أزعجه هو أنّ الرئيس سعد الحريري أمسك بكل مفاصل هذا الملف، الأمر الذي اعتبره انتصاراً للحريري عليه وتسجيل نقطة مهمة في مرماه تتجاوز سحب الملف من يده إلى إمساك الحريري به. سيحاول النظام السوري عن طريق استجداء موسكو حفظ ماء وجهه في هذا الملف، ولكن مهما فعل سيبقى القرار النهائي في يد موسكو، ومن دون إغفال أنّ الاتفاق على عودة النازحين أميركي - روسي، والطرف الأول من دون إعطاء أيّ دور للنظام السوري.


وعليه، يشكل تدويل ملف النازحين مصلحة لبنانية عليا وأكيدة، وبالتدويل فقط تحفظ المصلحة اللبنانية العليا، مع الإشارة إلى أنّ استقالة الحريري في تشرين الثاني الماضي أظهرت بما لا يقبل الشك أنّ لبنان أصبح مدوّلاً، ولا يمكن أيّ طرف إقليمي جرّه إلى سياسات تتناقض مع الاستقرار المطلوب تثبيته دولياً، ولذلك ستجد المحاور الإقليمية نفسَها محكومةً بهذا الواقع الجديد.


وفي موازاة التدويل لا يمكن التقليل من أهمية هذا التطور بالنسبة الى واقع تأليف الحكومة من زاويتين على الأقل:

ـ الزاوية الأولى أنّ عدم وجود حكومة يجعل معظم الأمور والملفات ممسوكة بيد رئيس حكومة تصريف الأعمال ورئيس الحكومة المكلّف من دون قدرة سائر الأطراف على المشاركة في رسم التوجّهات، كما لو كانت هناك حكومة قائمة بذاتها، الأمر الذي سيدفعهم إلى الضغط لتجاوز العقد الموجودة من أجل أن يستعيدوا شراكتهم في القرار السياسي.

ـ الزاوية الثانية غير بعيدة من الأولى حيث إنّ الاتفاق الأميركي-الروسي على ملف النازحين أشّر إلى دخول المنطقة في مرحلة سياسية جديدة، وأنّ الاتفاق على النازحين قد يكون نقطة من نقاط عدة، الأمر الذي يستدعي تأليف حكومة لمواكبة المرحلة الجديدة، خصوصاً أنّ «حزب الله» لا يستسيغ أن يكون خارج الحكومة في مرحلة تحوّلات كبرى بدأت في هلسنكي.


فلكل ما تقدّم من اعتبارات قد تكون البلاد أمام حكومة قريبة، خصوصاً أنّ العقد الموجودة يمكن تجاوزها بقرار رئاسي من بعبدا، والتجربة مع الرئيس ميشال عون دلّت الى أنه لا يتأخّر في الوقت المناسب على اتّخاذ القرار المناسب، وما حصل مع الرئيس نبيه بري وتوقيع وزير المال مرسوم الأقدميات سيتكرّر حكومياً، والمخارج المطروحة تحفظ ماء وجه الجميع، والانطلاقة الحكومية كفيلة بتجاوز مرحلة التعقيد وتسجيل النقاط، إنما السؤال: هل الدينامية التي انطلقت مع الاتفاق الأميركي-الروسي واستُكملت في لقاء بعبدا أمس الأول تشكّل فرصة مؤاتية وستؤدّي إلى كسر حلقة الجمود وولادة الحكومة العتيدة؟
الأرجح نعم، وإلّا الدخول في جمود جديد حتى إشعار آخر...