كأن مي سكاف برحيلها المفاجىء، والغامض، تعلن أنها تعبت من أداء دورها الاخير: ان تكون رمزاً لثورة على وشك ان تخمد، طليعة لثوار على حافة الضياع.. تكتفي بأن تطلق بين حين وآخر صرخة مدوية على وسائل التواصل الاجتماعي، تتحدى بها اليأس والخيبة والمنفى.. لكنها لا تجد من يستجيب لها أو حتى يسمعها في الداخل السوري.
 

كأنها كانت أل التعريف بالثورة في نسختها الاصلية المحببة، أو تاء التأنيث للثورة في صورتها الاولية المفتقدة. هي أصبحت الان فقط، أيقونة الثورة التي تصون الذاكرة، وتحفظ ملامح ذلك الوجه الهادىء، الغاضب، المتمرد، في آن واحد.

كأن مي سكاف برحيلها المفاجىء، والغامض، تعلن أنها تعبت من أداء دورها الاخير: ان تكون رمزاً لثورة على وشك ان تخمد، طليعة لثوار على حافة الضياع.. تكتفي بأن تطلق بين حين وآخر صرخة مدوية على وسائل التواصل الاجتماعي، تتحدى بها اليأس والخيبة والمنفى.. لكنها لا تجد من يستجيب لها أو حتى يسمعها في الداخل السوري.  

وفاة مبكرة، تكاد تكون جناية. لكنها تأتي في سياق طبيعي جدا: في لحظة إسدال الستار على المشهد الختامي من مسرحية العبث  بالثورة، وحملة الروس والايرانيين لخطف سوريا، لا يبدو أن غياب بطلة التراجيديا السورية مي سكاف يمثل منعطفاً في مسار الحدث. هي أطلقت صرختها الأخيرة التي ربما لن يتردد صداها في أي مكان سوري، لكنها قد تترك أثراً موجعاً في المنافي التي توزع عليها شعب غدر به الزمن، وحرمه حتى من الصراخ.

هناك، في الشتات، تحول خبر وفاة مي سكاف على الارجح الى فاجعة شخصية لكل منفيّ يقاوم الغربة والهجرة: هل ما زال الوطن قائماً، متاحاً، أم أنه تحول الى ذكرى بعيدة، تضعف يوماً بعد يوم، لتسقط في القريب.. ولا يصمد منها سوى بعض الروابط الواهنة والصور الباهتة، التي لا يمكن توريثها الى الجيل الجديد من السوريين. منفيون ومهجرون كثيرون أحسوا بالخوف من موت مشابه.

وحيدة ماتت مي سكاف في المنفى. لم يعد هناك ثورة تشبهها، ولم يبق هناك ثوار يعبرون عنها، يليقون بها. رفاق المسيرة باتوا في القبر او السجن..او في بلد ما صار الاندماج به متاحاً، بل ملزماً، طالما ان شروط العودة الى سوريا تزداد صعوبة يوما بعد يوم . وهذا ما كان بالتحديد خارج تصور مي سكاف التي قاومت من اللحظة الاولى ضغط الخروج من سوريا، وكانت تردد علناً انها تشعر بالحرية في أي معتقل سوري أكثر من أي منفى. وهي إختارت بوعيها الكامل الدخول الى السجن في المرحلة الاولى من الثورة،لأنها لم تكن تريد أن تترك الثوار، ولم تكن تود ان تتعرض للابتزاز والمساومة على حريتها.

في منفاها الباريسي، ظل صوتها يصدح بالهتافات والشعارات الاولى، عن الشعب الواحد، وعن الاله الواحد. بين الحين والاخر كانت تسب، وتتوعد، وتعبر عن ثقة مفرطة بأن سوريا لن تظل الى الابد إحتكاراً أسدياً. كانت تلك اللغة علامة خاصة بمي سكاف وحدها، يجري تصنيفها بإعتبارها تذكيراً ضرورياً بالايام الجميلة للثورة، التي خطفت ثم أغتصبت ثم عذبت ثم دفنت من قبل جميع من كانوا حولها، الحلفاء منهم والاصدقاء العرب والاجانب، قبل الأعداء الروس والايرانيين.

لعل مي سكاف لجأت الى تلك اللغة في الاونة الاخيرة بعدما شعرت أن كل شيء قد إنتهى، وأنه أوان الترجل، والتنحي. لكن شخصيتها الفريدة ، الثائرة، بكل ما في تلك الكلمة من معنى، لم تدع مجالا للشك في أنها يمكن أن تغادر خشبة المسرح على هذا النحو، أو أنها يمكن أن تسلم بالهزيمة (المؤقتة على الاقل)، أو أن تعترف بالحاجة الى الانحناء قليلاً أمام العاصفة الروسية الايرانية الهوجاء.

سلمت مي سكاف الامانة قبل خمس سنوات. عندما إرتضت العيش في المنفى. إعلان وفاتها أمس جاء متأخراً بعض الشيء. قد يكون إرتبط برصد نتائج تلك العاصفة، وبما حققه الروس والايرانيون من إختراقات في الجسد السوري، وبما عجز عنه ورثة الثورة ومحرفّوها عن مسارها الأول الذي كان يتيح لفنانة خارج السياسة أن تتحدى نفسها وعائلتها وطائفتها ومدينتها.. وتكون أل التعريف وتاء التأنيث.