عندما نختلي بتليفوناتنا ليلاً وتصبح السوشل ميديا ثالثنا، ونبدأ السباق مع الأخبار بإصبعنا الراكض على الشاشة وبأعيننا المتنوّرة بضوء الشاشة الأبيض...

في هذه الحالة المسائية المتكرّرة، كم من مرّة تمنّينا القمع لكل شخص يختلف مع رأينا السياسي، وكم صَلّينا أن يطلبه مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية ويمكن حتى أن يَدهم منزله فوج المغاوير. كم تمنّينا القمع لكل من يحبّ فنّاناً لا نطيقه أو يقرأ جريدة لا نشتريها، أو يشاهد محطّة لا تستهوينا برامجها...

كم من مرّة استسلمنا لهذا الجوّ وتخايلنا أن يتحوّل إصبعنا وحشاً يفعص بنقرة واحدة على الشاشة كل حسابات الأشخاص الذين ينشرون أي شيء يزعج إنسان الكهف فينا، أو صورة تهزّ عرش معتقدنا الديني المتزمّت، ويقطع صوت الفنانين والمحطات والإذاعات التي تحرّك فينا الروح القمعية...

كم من مرّة حلمنا أن تتحوّل آراءنا في السياسة والفنّ والاجتماع والكبّة النيّة والكشك بقاورما إلى غرندايزر عملاق يَداه من حديد، يطير عالياً في السماء وينقضّ على كل من يختلف معنا بالرأي ويقضي عليهم، ويبقى رأينا نحن سلطاناً على عرش الحرية المرسومة على مساحة قوقعتنا... نطالب بالقمع في سرّنا ونحاربه مُرغمين في العلن.

إنتفضنا على السوشل ميديا منذ بضعة أيام ضد القمع وطالبنا الأجهزة الأمنية والدولة بعدم التعرّض للأشخاص بسبب رأيهم، وكنّا نحن قد مارسنا سياسة القمع على أشخاص لا يشاركوننا معتقداتنا الدينية، وقبلها مارسنا سياسة القمع على حفل لإحدى الفنانات لأنها لا تغنّي ما يدغدغ أحاسيسنا وأفكارنا... حتى أصبحنا نطلب سياسة القمع دليفري عندما ينقصنا لايك أو ريتويت أو نقرأ كلمة من خارج كتابنا.

وعلى الأرجح أنّ الدولة أنشأت مكتب مكافحة الجريمة المعلوماتية، لأنها كانت مطمئنة ومتأكّدة من أنّ كل حزب وتيار وفنّان وطائفة في البلد يملك جهازاً جاهزاً للإجهاز على أي رأي مختلف بسواعدنا نحن المفتولة بسياسة القمع وإلغاء الآخر.

لا يحقّ لأحد أن يمنعنا من التعبير عن رأينا، لا جهاز أمني ولا ديني ولا سياسي ولا حتى دولي... وكذلك لا يحقّ لنا أيضاً أن نمنع الناس من الاستمتاع بالحياة كما تشاء وحيث تشاء. ويجب علينا أن نرى العمود في عيننا قبل أن نلاحظ القشّة على كتف ضابط، وقبل أن نكون ضد القمع بالشعارات وفي الأماكن التي تسمح لنا بالتقاط صورة من أجل أن نضعها على فيسبوك وانستاغرام، لماذا لا نكون أولاً مع حرية بعضنا البعض، مع حرية اختلافنا في الذوق والرأي والهدف والحلم والدين والله والأرز والشربين. ولا شكّ في أنّ قمع الدولة والأجهزة مريب ومخيف ويُنذر بالأسوأ، لكنّ قمعنا لبعضنا أخطر بكثير...

وليست المشكلة في القلّة القليلة التي تتجرّأ أن تبدي رأيها بصراحة أو تعبّر عن وجهة نظرها بتجرّد... بل المشكلة الفعلية هي فينا نحن الأكثرية الصامتة عن التجاوزات الكبيرة وانشغالنا بالتهليل للإنجازات الضيّقة، فنحن لا نفرح ونهلّل لأيّ عملية تزفيت أبعد من مفرق بيتنا، فالجورة عند الجيران لا تعنينا.

هل أصبحت مشكلة البلد في القلّة التي يتمّ استدعاؤها إلى مكتب مكافحة الجرائم الإلكترونية، أم المشكلة الحقيقية هي في الأكثرية التي تجَرجرنا إلى خيَم الجاهلية.