اقْتنعتُ الآنَ أنني كاتبةُ قِصص فاشلة. نُشِرت أخيراً روايتي الخامسة. اعتقدتُ أنَّها ستحقق بعضَ نجاحٍ، وتنسيني خيباتي السابقة. ولكنها لم تُحظَ بأي قبولٍ لدى القارئ الفرنسي. رغم أصلي المغاربي، اتهموني بالمتاجرة بآلام العرب. أعترف أنَّ مَنطق روايتي مفككٌ للغاية. ولكن هذا ليس خَطَئي. الحِبكة معقدة: انتحال شخصية، تحرُّشٌ جنسي وتدخل دولي. كل هذا في رواية واحدة. حاولت تركيب مراحلها، فلم يَستَقم منها شيءٌ.  

***

رتبتُ جُذاذاتي عشراتِ المَرات حتى أحصلَ على سلاسةٍ ما، دون جدوى. اضطررت إلى أن أزيِّفَ أشياء لأحافظَ على تماسكٍ ظاهري. تخيَّلتُ بعضَ الأحداث المفقودة. الجُذاذة الأولى: "وظيفة شاغرة (عدد 101): تبحث قناة "الزُّرْق" عن مُحلل أخبار، يُتقن اللغتيْن. الدوام 10 ساعات في الأسبوع. المهمة: التعليق على قضايا الإرهاب وشرح أسبابه ومظاهره. الراتب مُغرٍ، قابل للتفاوض". حقًا، إنه إعلانٌ مُريبٌ.

أحدِسُ أنَّ ف. ه. قرأ الإعلانَ في موقعٍ إشهاري على الشَّبَكَة. لا شك أنه اختلق لتوِّهِ سيرة ذاتية، صاغ أجزاءَها على مقاس وظيفة: "مُحلل أخبار". هل استثقلَ العنوان؟ تفصيلٌ سَخيفٌ. لن أبنيَ عليه شيئًا في استقصائي. أتخيَّلُ أنه كان يعشق الظهورَ على الشاشات والثرثرَة حولَ الإرهاب، مع أنه لا يضيف شيئًا إلى المعلوم بالضرورة. أرسل سيرته الذاتية وأردَفَها بمطلبٍ: "أعبِّرُ عن حماسي لإضاءة حوادث الإرهاب وربط النتائج بأسبابها لمساعدة السادة المشاهدين على فهم هذه الآفة التي ضربت باريس يوم 13 نوفمبر 2015". يا له من ماكر ! ضَربَهم على الوَتَر الحساس.

مواضيع ذات صلة
وصَدَح المزمار بعدَ الثورة... "الآن سأجاهد في سبيل الله والشهادة عُرسي"
 
جنونٌ لأسباب سياسية
لحسن الحظ، تمكنتُ من الحصول على هاتين الوثيقتيْن بعد أن اخترقتُ بَريدَهُ الالكتروني: حَرِص على التنويه ضمن سيرته - قسم التجارب المهنية- بسنوات تدريسٍ في معهدٍ للعلوم السياسية بتونس. يصعبُ التحقق من هذه المعلومة. وضع أيضًا بضعةَ عناوين مقالات حول تَنظيمَيْ داعش والقاعدة. تدخلاته في التلفزيون الرسمي الماليزي بحضور وزير الداخلية تفصيلٌ لا يمكن التحقق منه. في القسم الأخير، شدَّد على شَغفه بالرسم التشكيلي والموسيقى الألمانية الكلاسيكية. هذا السطرُ أكذوبة سَهلةٌ ورخيصةٌ. كيف انطَلَتْ على مدير القناة؟

ورقةٌ مُلصقة على حاسوبه كُتِبت عليها جملة، مقتطعةٌ من موقع وزارة الداخلية: "تُحذِّر الوزارة المُواطنين والمُقيمين من مُستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي من الانسياق نحو الشائعات والترويج لها". لماذا حافظَ على مثل هذا التحذير الفَضفاض؟ ولماذا مَيَّز تحذيرُهُم بين المُواطنين والمُقيمين؟ هل كان مُحَرِّرهُ عنصريًا!

حَسب تاريخ الخادم الإلكتروني، أنشأ ف. ه. مدونةً، بعد أيام قليلة من نشر الإعلان. تعود بدايتُها إلى سنة 2011. نَشرَ فيها مقالاتٍ استقاها من هنا وهناك، مقدمًا كلَّ واحدٍ منها بجملتيْن أو ثلاث توحي بأنها من إنتاجه. أضاف إليها فيديوهات قصيرة صوَّرها بنفسه لنفسه، أمام خارطة عالم ضَخمةٍ. أودعها عمومياتٍ: "وَلْنَعلمْ أنَّ المدخلَ الرئيس لفهم الإرهاب هو تتبع جذورِهِ الاجتماعية"، أو "من المُهم أن نعرفَ أن المسلمين يشكلون أقلية في أوروبا". جُملٌ إنشائية بارِدة. كان يرسلها مع تغيير نبرتِهِ وجعلها أكثرَ جدية. لا تزال الفيديوهات موجودة: تؤكد سِمات وجهه أنه يقرأ من شاشة أمامَه، مع أنه يتظاهر بالارتجال.

مَحضر جَلسة (رقم 103): "15 تموز 2014. مقابلة توظيف، اتصلت مُؤسستنا، قناة "الزرق"، بالسيد ف. ه. لإجراء مقابلة معه. طرح المدير مَجموعةً من الأسئلة أجاب عنها المُتَرشح ببراعة". براعة؟ لا شكَّ أنه احتال عليه بما اختزنَتْهُ ذاكرتُه من عبارات جاهزة مَحفوظة. هي ذاتُ العبارات التي وجدتها في مراسلاتِهِ الأخرى. حتى الفاصلة لا يغيِّرها. وافق المدير. 1 سبتمبر 2014، شرَع في العَمل. يتحدث في برنامجه اليوميّ نصفَ ساعة، ولا يقول شيئًا. هذه براعةٌ. يكرر بديهيات يعرفها الجميع. ومع ذلك، أثار حسدَ زملائه ومَرؤوسيه. إيميل حُرِّر في 6 يناير 2015: "عزيزتي، لا بد من تَوريطه في قضية تحرش. أوهميه أنك تحتاجين إلى نصائحه لتحسين عَملكِ. اطلبي منه موعدًا في مكتبه، وصَوِّريه خُفية. بادليه رسائل نصية حارقة".

هل وقعَ في فخ زميلته بسرعة أم تَشَكَّكَ في نياتها؟ يَصعبُ الجزم. تشي الصور الفاضحة بتأففه أثناء "المَوعد". كأنه غيرُ راغبٍ. رُفِعت ضدَّه دعوى. فُصل من الشُّغل. شاع الخبر على الشَّبكة. متابعٌ على صفحته يتساءل عن سبب غيابه. هذا جوابه: "اكتشفتُ وثائقَ سرية جدًا عن زعيم داعش. سُرِّبت لي من الداخليّة. ستقلبُ الوثائقُ معلوماتِنا عن هذه المنظمة. لما أعلنتُ اكتشافي في التلفزيون، بَلغتني تهديداتٌ بالقتل من إسلاميي فرنسا. اختلقتْ المخابراتُ الفرنسية قصة "التحرش" وأشاعتها لحِمايَتي منهم. وضعتني في مكان آمنٍ، تحت حراسةٍ مشددة ريثما تُنسى القصة. لا تقلق. سأعود لشُغلي في القناة".

بحثتُ عن فَحْوى الوثائق السرية المُسرَّبة. لا أساس لها أصلاً. مع ذلك، جاء في تعليق عَرضي لمستشارٍ في الخارجية الفرنسية: "الوثائقُ التي قيل إنها وُجِدت في الرقة (سوريا) مزوَّرة. لا صلة لها بداعش، كما أشيع في قناة "الزرق". مُجرَّد ورقاتٍ اختطتها مخابرات بلدٍ معادٍ لتضليل الرأي العام".

في موقع وزارة الداخلية، تقرير طويلٌ ينفي حماية أي شخص خارجَ رجال الدولة. تُعلل الوزارة قرارَها التقشفي بضيق ذات اليد. مُرفقٌ جداولُ ورسومٌ بيانيّة مُزعجة. أرقام وجُذورٌ ودَوائِر ملونة. لم أكمِل قراءَتَها، بطبيعتي أكرهُ الرياضيات والأعداد. أصدرت الهيئةُ العليا للإعلام تنويهًا: "مارس 2016: لم تحصل قناة "الزرق" على رُخْصة للبث. بثت بَرامِجَها بشكل غير قانوني. اتُّخِذت ضدها كلُّ الإجراءات القانونية وأغلقت". صمتُ الهيئة لِسنَتَيْن فيه إنَّ. "(بيان 104): تعلن وزارة الداخلية القبضَ على المدعو ف. ه. بتهمة إخفاء هويته الحقيقية وانتحال هوية زائفة تعود لشخص وهمي. انتحال هوية الغير تَزويرٌ معنوي يُعاقِبُ عَلَيه القانون". لماذا ارتكبَ ف. ه. كل هذه التزوير؟ أصلُهُ مغربيٌّ. غَيَّر اسمَه العربي "فريد هامي" بآخر فرنسي: François HAMMET ليؤكد اندماجَه التام.

***

سَلمتُ المخطوطَ للناشر، قُبيل عُطلِ نهاية سنة 2016. تَحمَّسَ لإصدار روايتي وشَكَرَني على جهودي في الاستقصاء وجمعِ الوثائق الأصلية. لم يمض سوى شهرين حتى صَدرت. طبعاً، سررتُ بذلكَ كثيرًا، قبل أن تصلني تدريجياً ردود فعل الصحافة. ما أكثر كلمات الاستهزاء وما أقساها؟ تردد جميعُ المقالات نَفسَ العبارات: "رواية مفككة" أو "كاتبةٌ تُتاجرُ بآلام العَرب".

(نجم الدين خلف الله)