استعراض الفعاليات السياسية والدينية ومهازل الإرهاب والفساد والكراهية لن يبني دولة، وطاعة المرشد لن تكون فريضة على العراقيين الذين كسروا حاجز الخوف والانقياد الأعمى وتعلموا الدرس من كارثة الموصل.
 

لو أعدنا مراجعة مقالات الكتاب العراقيين بعد الاحتلال الأميركي في أبريل 2003 وحصرا في فصل الصيف وتحديدا في شهري يوليو وأغسطس، لتبين لنا أن تظاهرات المواطنين واحتجاجاتهم متواصلة، وكذلك العنف ضدها ومشاهد الدماء والغضب وتغييب الناشطين وتشييع الضحايا، وكذلك وعود النظام السياسي بالإصلاح وتوفير الخدمات، لتهدأ بعدها التظاهرات وتذوب في مداخلات ومحاذير المندسين بما تروّجُ له الأحزاب وأصحاب الغرض لحماية مكاسب السلطة.

عند قراءة تلك التحليلات نصل إلى أن العراقيين يعيدون إنتاج ذات الانفعالات على مدار السنة وفي مواضعها الزمنية والمكانية، ومع مناسيبها تطبعت أخلاق المنطقة الخضراء ومناهجها في إطلاق سراح الهياج الجماهيري وفق معايير اللحظة المطلوبة، أو لجمها عند حدود وغايات طائفية أو سياسية أو انتخابية.

ممارسات تعدت أحيانا إلى ركوب موجة المندسين الجاهزة لتكون حلا في قمع تظاهرات سلمية واعتصامات لمجموعات نطلق عليها أحزاب المتنبي نظرا لسماتها في الوعي وإيمانها بدور الثقافة والفن في رسم مدنية الدولة، وهي من الحالمين بمبتكرات ديمقراطية حضارية تعرض فيها أساليبها وشعاراتها التي تصطدم دائما بمندسين فاعلين من الأحزاب الطائفية والجماعات الميليشياوية، وجريمة طعن الشباب المعتصمين ليلا بالسكاكين والهجوم عليهم بالعصي وإزالة الخيام من تحت نصب الحرية في ساحة التحرير ببغداد رغم تواجد الشرطة، ماثلة في الذاكرة.

تكررت تلك الأحداث في محافظات الجنوب أيضا، مثل الجرائم الكبرى في فض الاعتصامات بعـد خلق مبرراتها وأسبابها ثم تنميتها بالتهديدات وعدم الاستجابة لمطالب الإفراج عن النساء المعتقلات، للضغط على الموقوفين لانتزاع اعترافاتهم تحت التعذيب.

أدت هذه التصرفات إلى تنفيذ مخططات لم تعد غامضة الأهداف، وإن كانت في بعضها بلا ملامح حتى الآن، فالأيام كفيلة بسرد دوافع المجازر والإبادات التي تعرض لها العراقيون بمختلف أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم وإن تفاوتت بحجم كوارثها بما يتناسب مع ما رصد لها من نزيف دم وإهانة وتوصيل رسائل معقدة، تقف خلفها أجندات فكرية وطموحات تنسج على منوال الأداء السياسي في إدارة الدولة.

أكثر من 15 سنة وأزمة الكهرباء تجتر ميزانية العراق وتستهلك الوزراء والشركات والتعاقدات وسوء الاختيارات الفنية للمنظومات في سلسلة تجارب استهلكت بقايا الثقة بين الدولة والمواطن، كما استنفدت الصبر وطاقة التحمل.

كان الهدف ربط العراق ومستقبله الاقتصادي بنظام الملالي في طهران، والحقيقة أن النظام السياسي لعمالته المفرطة ولقصر في رؤيته ارتهن مصيره بتاريخ علاقة أحزابه أو بالأحرى ميليشياته بذلك النظام في توقيت حرج كانت فيه رحى الحرب الإيرانية العراقية تدور بكل تداعياتها ودمويتها وبسلوكها المشين ضد بلادها.

نقطة ضعف الأحزاب الحاكمة هي تبعيتها للولي الفقيه، تبعية عقائدية تتجاوز الوطن وتجاهر بالاستسلام لمشروعه الطائفي في المنطقة، ليس من باب رد الوفاء لإيوائها فقط، بل لإيمان هذه الأحزاب بإمكانية تحويل العراق، أرضا وشعبا، إلى ملحقية تابعة للسفارة الإيرانية في بغداد.

قطع إمدادات الكهرباء بقرار إيراني وضع حزب الدعوة والأحزاب الطائفية أمام فقرة المساءلة عن أسباب سوء الأداء وتراجع سقف إنتاج الولاء للمرشد، في فترة أحوج ما يكون فيها إلى تثبيت إرادته وتجارته وميليشياته وخروقاته للعقوبات المقبلة على نظامه وتمدده الإرهابي.

تؤكد المصادر أن فائض إنتاج الكهرباء في إيران يقترب من 15 ألف ميغاواط، بينما استهلاك العراق من تلك الطاقة 1200 ميغاواط، لهذا يكون عدم التسديد بالعملة الصعبة أحد الموجبات المنطقية لقرار القطع، لأنه في المحتوى يدلل عن خلل في طبيعة العلاقة التقليدية بين النظام الإيراني وميليشياته الحاكمة في العراق، وهي خطوة تنفيذية في استجابة صريحة للتبليغات الأميركية وما يتعلق منها بالعقوبات رغم ما في عقود الكهرباء مع إيران من صفقات فساد سياسية واقتصادية تعمدت إضفاء الشرعية القانونية على تزويد إيران بأموال تعادل إنشاء محطات توليد طاقة كهربائية تغطي حاجة العراق بأكثر من الضعف.

قطع إمدادات الكهرباء من إيران بمثابة تبليغ رسمي مقابل للولايات المتحدة بعدم السماح لأي تململ أو تغيير يطرأ على جوهر العملية السياسية؛ وباتجاه آخر تصبح المعادلة مفتوحة على كل الاحتمالات في إبقاء العراق ضعيفا ومنهارا وهامشيا وخاضعا للإملاءات الإيرانية، إن في إثارة الشارع أو الانتقام منه، لأن شعب العراق هو من قاتلهم ومنع احتلالهم لأراضيه، لذا مقولة إن القادة والضباط والطيارين هم فقط على لائحة الانتقام والثأر لم تعد تفي بتنفيذ لائحة أهدافهم.

ما لا يغتفر للعراقيين ما قامت به الجماهير المنتفضة من حرق لصور الخميني في إشارة تلقفتها ميليشيات الحشد الشعبي وزعماء حزب الدعوة وغيرهم من عملاء إيران، وكذلك القيادة في طهران، ورغم أنهم تجاهلوا إعلاميا الخوض في الآثار الجانبية، إلا أنهم سارعوا إلى ترميم الصور واللافتات بما ينذر بتصعيد ردة الفعل تجاه التظاهرات أو بواجبات المندسين فعلا من الميليشيات المتمرسة على خلق مبررات العنف.

استعـراض الفعاليات السيـاسية والدينية ومهـازل الإرهـاب والفساد والكراهية لن يبني دولة، وطاعة المرشد لن تكون فريضة على العراقيين الذين كسروا حاجز الخوف والانقياد الأعمى وتعلموا الدرس من كارثة الموصل وانتفاضة الشعوب الإيرانية على نظام الملالي المتخلف بما تسبب به من جوع وفقر وعطش وقمع مستمر طيلة 40 سنة.

محاولة دهس المتظاهرين بالعجلات العسكرية من قبل سلطة الوقت الضائع في مدن العراق، تهور يشبه ما قامت به القوات الأمنية عند مهاجمتها لمعسكر أشرف للمقاومة الإيرانية قرب مدينة الخالص، بما يؤكد نوعية الأوامر ومصادرها وتدريبها وما تنبئ به الأيام القادمة من استنفار في سلاح الميليشيات لمواجهة تظاهرات الصيف أو الشتاء.