"عندما أشاهد شجاعة طلبتنا، مثل آية عباس على سبيل المثال، من مخيم اليرموك في سوريا والتي تدرس في مستوى الصف التاسع، وقد أحرزت أخيراً المرتبة الأولى في الامتحانات السنوية على مستوى سوريا كافة، فإنني لا أستطيع أن أتخيل العودة إليها وإلى صفها، للقول إننا فشلنا في حشد الموارد المطلوبة للإبقاء على مدارسهم مفتوحة".

(بيير كرينبول المفوض العام للأونروا)

تعكس عبارة المفوض العام، والتي جاءت في خطابه أمام المانحين في مؤتمر التعهدات المنعقد في حزيران/ يونيو المنصرم، أحد أبرز جوانب أزمة الأونروا، والمتصلة بموضوع التعليم. وهو الذي شكل السلاح الأول للفلسطينيين في مواجهة النكبة وما تلاها من نكبات. وغير خافٍ أن المساهمة التي قدمتها الوكالة الدولية على صعيد التعليم، ثبتت قضية اللاجئين وعززت صمودهم وتمسّكهم بهويتهم. ولكن أزمة الأونروا لا تقتصر على هذا الجانب، بل هي أزمة بقاء بالنسبة للوكالة التي أنشئت لمساعدة اللاجئين الفلسطينيبن - الذين وصل عددهم حسب إحصاءات العام 2017 إلى 8,534 ملايين لاجئ - على العيش والحصول على المتطلبات الأساسية للحياة من الغذاء إلى التعلم فالدواء والمسكن. فيما بقي الحق البديهي بالعودة إلى فلسطين. والذي اعترفت به وكرّسته القرارات الدولية بداية في بالقرار 194، وما تلاه من قرارات على مدى عقود صدرت عن الأمم المتحدة وهيئاتها المختلفة.

في المقابل توالى الدعم الأميركي للمواقف الإسرائيلية التي ترى الحل لقضية اللاجئين في توطينهم حيث هم. واستخدمت الولايات المتحدة نفوذها الدولي في تعطيل ومنع تنفيذ قرارات الأمم المتحدة التي تعترف بحقوق اللاجئين، بل سعت بكل جهودها إلى طمس القضية.

اليوم يلهث الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلف تمرير ما سمي بـ"صفقة القرن". وهو يعتمد بحسب كثير من المراقبين سياسة التنفيذ قبل الإعلان، حيث عمد إلى، أولاً: الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، ومن ثم وقف الدعم الأميركي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين، في خطوة تمهيدية لتفكيكها -إعدام الشاهد الحق - مروراً بمشاريع التطبيع وتبني دول عربية صفقة القرن الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية.

تعكس الحملة التي أطلقتها الأونروا لجمع التبرعات، تحت عنوان: "الكرامة لا تقدّر بثمن"، عمّق الأزمة التي تعانيها لتغطية النفقات الأساسية، وهي في حملتها هذه، تحاول شحذ الهمم، وحشد التضامن والاهتمام والقيام بمبادرات خاصة للتخفيف من الأزمة المالية. على أن ثمة ما هو أخطر من المال، ونقصد نيات التصفية في توقيت استثنائي، وعلى صلة بما يرتَّب للقضية الفلسطينية ككل. ذلك أن حجم المبالغ المطلوبة لاستمرار الأونروا ليس كبيراً إن توفرت الإرادة السياسية لجمع الأموال أو دفعها. ولكن الخوف هو من طبيعة النظرة المتشكّلة نحو الأونروا ودورها تجاه اللاجئين، وخصوصاً في الأماكن التي تتطلب تدخلها الفوري على غرار مخيم اليرموك والمخيمات الفلسطينية الأخرى في سوريا، وعلى نحو ما تشهده غزة وغيرها من ضغوط طاولت الحياة اليومية لعشرات الآلاف من الفلسطينيين.

غزة الانفجار المقبل

لا يملك أهالي غزة أي بديل اقتصادي أو معيشي آخر بعيداً من خدمات الأونروا، التي طالتها التقليصات في أكثر من مفصل حيوي: المواد الغذائية، الصحة، التعليم، القروض المالية، نظافة المخيمات، والمواد الغذائية المقدمة للاجئين، إضافة إلى تقليص رواتب موظفي الوكالة والتأخر في عملية صرفها. وفيما تظاهر الغزّاويون مطالبين باعتماد موازنة الوكالة بشكل دائم، كجزء من موازنتها الرئيسية، تتفاقم الأزمة المالية للوكالة التي ستنعكس دراماتيكياً، وبالتدريج على حياة أكثر من 5 ملايين لاجئ فلسطيني يعتمدون بشكل أساسي على خدماتها، من بينهم مئات الآلاف في قطاع غزة، وأقل منهم بقليل في الضفة الغربية.

إعمار اليرموك

رغم مضي وقت على إخراج تنظيم "داعش" الإرهابي من مخيم اليرموك، مازالت العودة إلى المخيم متعثرة ولم تتضح خطط لإعادة إعماره. ولا ريب أن العُجوزات التي تعانيها الأونروا تفاقم أزمة اللاجئين الفلسطينيين المهجرين من مخيم اليرموك. الوعود كثيرة ومتعددة، وهناك مبادرات للتحرك، قدمت مؤسسة جفرا واحدة منها، وعبّر المفوض العام للأونروا عن "القلق" وأكد استعداد الوكالة للوقوف "خلف هذا المجتمع ودعمه والبدء بإجراء تقييم أوسع للأوضاع في اليرموك، عندما تسمح بذلك الظروف الأمنية وتوفر سبل الوصول العامة، فهذا "اليرموك كان مصدر فخر لما يقارب 160.000 لاجئ فلسطيني" بحسب كرينبول.

لكن الضغوط الأميركية على الوكالة تضعها في موقف العاجز أمام التحديات. صحيح أن أميركا لا تملك أن تنزع صفة الشرعية عن الأونروا المشكلة بقرار دولي، لكن واشنطن بوقف الدعم المالي تسهم بقوة، في إحالة الوكالة إلى الوالد المقصِّر في تلبية ضرورات المرحلة، لا سيما وأن هذه الضغوطات طالت الدول العربية التي بدورها ترضخ تباعاً لسياسة لَيّ الذراع، التي تقوم بها الإدارة الأميركية. وعوّدنا بعض العرب على أن يسبق واشنطن إلى ما تريد.

وفي وقت تبدو فيه منظمة التحرير والفصائل غير قادرة على القيام بخطوات جدية في إعادة الإعمار دون أن نذكّر مرة أخرى بعجزها عن حماية المخيم، وفي الوقت الذي تقف فيه الحكومة السورية أمام ملفات ضخمة جداً تخص إعادة الإعمار في مختلف أنحاء سوريا، يعود دور الأونروا ليبرز بقوة في دعم المجتمع الفلسطيني اللاجئ في سوريا، وتحديداً في اليرموك.

الوكالة وضرورة التحرك العاجل

إن عودة الأونروا وتفعيل خدماتها داخل مخيم اليرموك، ضرورة وواجب. جُلّ ما هو مطلوب من الأونروا في الوقت الحالي، دخولها إلى مخيم اليرموك في أسرع وقت ممكن، وإعادة إعمار منشآتها من مدارس ومستوصفات ومركز المرأة ومركز الشباب، وإعداد برامج تتناسب مع إعادة الحياة إلى مخيمنا، وهو مطلب دائم وحثيث ولا بديل منه. ولا شك في أن عودة الأونروا إلى تفعيل مؤسساتها داخل المخيم، سيكون رسالة قوية في أكثر من وجهة، وخاصة لأبناء المخيم الذين اعتادوا الاستمرار والاستئناف.

الفلسطينيون محكومون بالحفاظ على المخيم كما على حقوقهم كافة، ويجب على الوكالة التي ولدت مع ظروف الهجرة الأولى واللجوء المتنامي أن تدعم جهودهم. والفلسطينيون اللاجئون في كل أماكن وجودهم، لن يقبلوا بالاستسلام للمخطط الأميركي، ولن يعجزوا أمام ضغوطات واشنطن عن النهوض مجدداً. ثمة ميزة يفهمها الفلسطيني... وهي المثابرة على الأمل. ففي وقت تدعوه الهزائم المتعاقبة إلى التسليم، يقوم اللاجئون الفلسطينيون مجدداً بتأكيد التمسك بحقوقهم. وحقهم أن يتطلعوا إلى دعم الشارع العربي والعالم بأسره، لكنهم تعودوا مع ذلك، رفض الاستسلام، حتى لو بقوا "وحيدين كراية غداة هزيمة".

(وسام سباعنة - مدير مؤسسة جفرا للإغاثة والتنمية)