في عامه الأربعين خصّص «منتدى أصيلة» برئاسة السياسي المغربي العريق والبارز محمد بنعيسى - إحدى حلقاته النقاشية الأربع لما سماه «الفكر الديني الحاضن للإرهاب: المرجعيات وسبل المواجهة». 


وقد شكا حاضرون وباحثون من تسمية بعض الفكر الديني حاضناً للإرهاب، بينما شكا آخرون من تسمية الإرهاب إسلامياً كما صار سائداً في الغرب والشرق، وآخِرُ وقائع تلك التسمية إعلان الرئيسين ترمب وبوتين في هلسنكي. والواقع أن وصف الإرهاب بـ«الإسلامي» فيه تجاوز ومبالغة. فالصحيح أن بعض المسلمين يقومون بأعمال عنيفة أو إرهابية. وهي أعمال تحدث منذ قرابة العقدين وتتصاعد وتائرها في ديار المسلمين، وفي مجتمعات العالم، خصوصاً في أوروبا القريبة. ويورد هؤلاء أسباباً لقيامهم بتلك الأعمال الإجرامية المروعة، لها علاقةٌ بالدين الإسلامي. 


وإذا أمكنت المجادلة في طبيعة هذه الأعمال إذا ظل الانتحاريون صامتين؛ فإن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن هؤلاء الشباب جميعاً مسلمون أو يتحدرون من عائلات مسلمة. ولذلك ورغم المبالغة في التعميم، ونسبة ذلك للإسلام؛ فإنه مما لا يُنكر أيضاً حق الضحايا وأهليهم ومجتمعاتهم في الاتهام العمومي سواء أكان دقيقاً أم لا.


أما أنّ هناك فكراً دينياً يحتضن التطرف العنيف، فهي واقعةٌ حقيقية. فهؤلاء المتطرفون يكفّرون المجتمعات والدول، ويستحلون من طريق ذلك الدماء والأموال وأساليب التخريب الوحشية. ولا شكّ في أنّ في ذلك افتئاتاً على الدين الذي يقول بحرمة الدماء والأعراض والأموال.


لكنْ مرةً أخرى هذا لونٌ من التفكير باسم الدين ظهر خلال العقود الأخيرة، واحتضنه آلاف الشباب، وتصرفوا على أساس منه ولا يزالون. ولذا فلا سؤال عن وجود هذا الفكر المقتنع بالعنف، بل السؤال عن أسباب ظهور الفكر أو التطرف العنيف، وكيفية أو كيفيات مكافحته وإطفاء نيرانه. لقد حدثت انشقاقاتٌ باسم الدين، روّعت المسلمين والعالم، والسؤال الآخر بعد الأسباب والمسوّغات ينبغي أن ينصبَّ على كيفيات المكافحة، وما الجهات التي ينبغي أن تقوم بذلك. وقد ذهبتُ في عدة دراسات ومقالات إلى أن المؤسسات الدينية ينبغي أن تلعب دوراً رئيساً في مكافحة التطرف والتطرف العنيف. ولنذهب إلى التمهيد أو المقدمات؛ فمنذ أكثر من نصف قرن، يجري العمل علناً وليس سراً على الربط بين الدين والدولة في عقيدة المسلمين ومجريات تجربتهم التاريخية. والذين قاموا بذلك في البداية ليست الجماعات المتطرفة، بل علماء وأساتذة من داخل المؤسسات الدينية وخارجها. فعندما تخلى مصطفى كمال (أتاتورك) عن الخلافة رسمياً عام 1924، كثر النُواحُ على الخلافة الغاربة، بوصفها من مقتضيات الدين، ومنذ زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وإلى العصر الحاضر. وما كان ذلك دقيقاً، وأكاد أقول إنه ما كان صحيحاً في صورته التاريخية، وهو أقل صحةً خلال نحو الثمانمائة عام. 


لكنّ الذين سميتُهم الإحيائيين تارةً، والتلاؤميين تارةً أخرى، مضوا قُدُماً في عمليات تحويل المفاهيم بقصدين اثنين: إحياء الإسلام الأول الذي ضربه التقليد وضربته الحداثة، والعمل على أسلمة الدول الوطنية الجديدة التي ظهرت في عالم الإسلام. وطرائقهم في ذلك الإقبال على مقولة تقنين الشريعة (وليس الفقه مثلاً!)، لتُصبح مُوازيةً للقوانين المدنية في الدول الحديثة، ثم إضفاء الشرعية على الأنظمة الحديثة التي تتكفل بتطبيق الشريعة المقننة. ولأنّ الشريعة في الإسلام هي الدين ذاته، يصبح من مهام الدولة في عالم المسلمين ليس إدارة الشأن العام فقط؛ بل وتطبيق الدين أو الشريعة أيضاً. وفي ذلك ربطٌ مُحكَمٌ للدين بالدولة يُلزمُ أحَدَهُما بالآخر، وهو الأمر الذي يتنافى مع الدين، ومع الدولة أيضاً، وتكليفٌ لها بما لا يُطاق، وليس من مهامها أو طبيعتها. كما يتضمن ذلك الزعم بأنّ الدين ليس مطبقاً الآن، وأنّ المسلمين غير مسلمين في الحقيقة، لحين قيام الدولة التي تستعيدهم إلى الإسلام!


وقد يقول قائلٌ إنّ هذه المطالعة الحجاجية تتضمن إلزامات غير ضرورية بإقامة دولة دينية مثل دولة ولاية الفقيه في إيران. بل المقصود صنع التجربة الإسلامية الخاصة والخصوصية، بدلاً من تقليد تجربة الدولة الحديثة بحذافيرها. والإجابة عن هذا الاستشكال أنّ «الدولة الإسلامية» أو «المؤسلمة» من خلال تلك التلاؤمية المصطنعة لا تشكل تجربةً خاصة، وتظلم الإسلام والمسلمين. وعندنا اليوم ثلاثة أنماط لتلك الدولة: الدولة الإيرانية، ودولة «داعش»، ودولة إردوغان برمزياتها الكثيفة. أما دولة إردوغان فتقوم شرعيتها حتى الآن على الانتخابات. وأما الدولة الإيرانية فتشكّل مزيجاً غير متلائم، وقد صارت نظاماً حديدياً يحكمه الملالي والأمنيات والعسكريات. ومعروفٌ ماذا صار بدولة «داعش»، التي أظهرت أقبح الوجوه للدين باسم الصرامة في تطبيقه.


إن إدخال الدين في بطن الدولة من طريق إشراكه في الصراع على السلطة مُضرٌّ بالدين وبالدولة معاً كما أثبتت التجارب، فلا حاجة للدين السياسي الذي يخالف طبيعة الإسلام، وما عرفه المسلمون من قبل. وقد جرّنا ذلك إلى تشرذمات وانشقاقات بالدواخل، وصراعات مُهلكة مع العالم. فحتى لو كان الإسلام يمتلك اهتمامات سياسية ذات طابع تعبدي، كما يزعم الإسلاميون بدون حق؛ فإنّ المصلحة تقتضي الآن إبعاد الدين عن السعي لإقامة الأنظمة السلطوية. وهذا الكلام الطويل العريض، المقصود من ورائه القول إن التطرف باسم الدين للوصول للسلطة مآلاته المصير إلى هذا العنف الأعمى الذي حلّ بنا وبديننا. وهكذا فالتخلي عن مقولة: الإسلام دينٌ ودولة، مفيد للدين قبل الدولة. فالإسلام اعتقادٌ وأخلاق وأحكامٌ ومعاملات، ولا يحتاج لدولة تقيمه، لأنه قائمٌ وعزيزٌ وأتباعه شديدو الإيمان به، سواء أقام باسمه نظامٌ سياسي أم لم يقم!


لقد حاضرتُ مع مجموعة من الأساتذة بندوة «منتدى أصيلة» عن التطرف العنيف، وكيفيات الخروج منه. وكان من نصيبي الاهتمام بدور المؤسسات الدينية في ذلك. وقد قامت المؤسسات الدينية في الأعوام الماضية بجهود كبيرة في مجالي مكافحة التطرف وتجديد الخطاب، وتصحيح العلاقة بالعالم ومؤسساته الدينية الكبرى. وإذا تحررت المؤسسات الدينية من همّ السلطة السياسية، كما تحررت منه الكاثوليكية؛ فسيكون من وراء ذلك خيرٌ كبيرٌ على الدين وعلى الدولة الوطنية أيضاً. ولذلك قلتُ إنّ أولوياتنا ينبغي أن تبقى: استنقاذ الدولة الوطنية، واستعادة السكينة في الدين، وتصحيح العلاقات مع العالم.