لا يزال موسم أصيلة شابا رغم بلوغه الأربعين. يعود ذلك إلى أنه قادر على التجدد والابتكار، مع المحافظة على طابع خاص ذي أبعاد جمالية.
 

في حكاية وصول فلاديمير بوتين أن رجال أعمال روسا أوفدوا عام 1999 واحداً منهم للاتصال به وإقناعه بالعودة إلى موسكو ليكون رئيسا لروسيا. كانت أوساط الكرملين قلقة جراء فقدان الرئيس بوريس يلتسين حينها زمام الأمور بعد أن أعياه المرض والإدمان على الكحول.

وللحكاية تفاصيل يتقاطع فيها الجاسوسي بالمافياوي، لكنها بالنهاية خلصت إلى أن يصبح بوتين زعيما مطلقا لروسيا، وأن يُخضع كافة رجال الأعمال في هذا البلد لسلطانه.

توجه الملياردير الروسي بوريس بيريزفسكي الذي كان يتزعم الجوقة حول يلتسين إلى جنوب فرنسا حين كان بوتين يقضي إجازة هناك. كان الفريق الأوليغارشي حول الرئيس الروسي العليل يبحث عن ضابط من صلب جهاز الأمن السوفييتي الشهير (كي.جي.بي) ليس له طموحات كبرى. كان في أذهانهم أن يأتوا بشخصية غامضة مجهولة يحركونها لحكم البلاد وراءه. فكان أن خرج من قمقم الغموض رجل روسيا القوي الحالي، ووُجد بيريزفسكي “منتحرا” شنقا في منزله في منفاه في لندن عام 2013.

لبوتين فطنة في قراءة رجال الأعمال وتدجينهم داخل خرائطه. وعلى هذا لم يكن صعبا أن يجيد التعامل مع رجل الأعمال القادم من واشنطن برتبة رئيس الولايات المتحدة. بدا أن دونالد ترامب قد وصل إلى هلسنكي متلهفاً للقاء الرجل الذي لم يخف يوماً توقه لصداقته، ولم يوار يوماً إعجابه به. ثم أن في الكواليس الأميركية من كان يهمس أن ترامب هو صنيعة بوتين وبالتالي فإن في اللقاء عبقا كاريكاتيريا من متلازمة السّيد والعبد.

لم تسكت أوساط واشنطن. تحدثوا عن “خيانة كبرى” وعن “أسوأ لحظة في التاريخ” وهمهمت الألسن “ماذا يملك بوتين عن ترامب؟”. بدا الرئيس الأميركي ضعيفا خانعا لسحر بوتين ومكره. وبدا “السيّد” هادئا متزنا واثقا، يراقب بخبث مسار ما أنجزه منذ أن تولى الحكم في بلاده فبات الزعيم الذي تخشاه كبرى العواصم في العالم.

بين ترامب وبوتين قاسم مشترك. يعشق الاثنان صناعة الحدث بقوة. يضرب بوتين بقوة في الميادين، يترك لجيشه فضائل القوة والجبروت ويجني بصبر وأناة ثمار فلاحة يخشاها الآخرون. هكذا فعل في الشيشان وجورجيا وأوكرانيا وسوريا…إلخ. ويضرب ترامب بقوة على المنابر على نحو غير متوقع، فيجذب العالم نحوه على الأغلب مستنكراً غاضباً ويترك لرجال الإدارة التبرير والتفسير وتدوير الزوايا. بيد أن رجل أميركا يهوى الإبهار المشهدي، فيما يتحرى بوتين بناء زعامة له ولبلاده بسكينة تشبه سلوك عملاء الـ“كي.جي.بي” الكبار.

يهمُّ بوتين كل شيء في هذا العالم. قيل يوماً إن معاهدة فرساي المذلة لألمانيا أنتجت أدولف هتلر، ولا شك أن انهيار الاتحاد السوفييتي المذلّ لروسيا أنتج فلاديمير بوتين. يحتلُّ الرجل مكانه بقوة في الكرملين وهو يسعى لأن تعيد روسيا احتلال مكانتها بقوة في هذا العالم؛ فسوريا وأوكرانيا وشبه جزيرة القرم ليست إلا مناسبات للقفز إلى قمم أخرى.

بالمقابل لا يهم ترامب هذا العالم إلا بالقدر الذي يساهم في إعادة انتخابه رئيساً عام 2020. على هذا يعمل على ما يحصد الأصوات في الداخل أكثر مما يعزز من شأن بلاده في الخارج. ولعدّة الشغل الانتخابي في الخارج دعم مطلق لإسرائيل إلى حد اقتراف ما لم يسبقه إليه رئيس من قبل بالاعتراف بالقدس عاصمة لها. ولعدّة الشغّل في الخارج ردح ضد كوريا الشمالية، ثم قمة مع زعيمها، وقطيعة وتهديد لطهران وزجر لكل الحلفاء في أوروبا والأطلسي. وإذا ما أضيف إلى ذلك حرده من الصين البعيدة ومن كندا والمكسيك القريبتين، فلأن ذلك يضخم أسطورة “الرئيس القوي” في أعين الناخب في أوهايو أو نيوجيرسي أو ميتشيغان أكثر من اتساقه مع مزاج موظفي الخارجية والبنتاغون، فحتى حين أعلن أنه يريد الخروج من سوريا كان ذلك أمام ناخبين، وليس أمام مؤسسات سياسية أو أمنية أو دستورية.

يقود بوتين روسيا، فيما الولايات المتحدة تتعايش بصعوبة مع قائدها. يقود ترامب البيت الأبيض بمواهب “البزنس مان”. ينافق ويمعن في تكبير عدوانيته ليخدع خصمه في أي نزال قبل توقيع أي صفقة. يفعل ذلك مع المحقق الخاص روبرت مولر هذه الأيام. يبالغ في إظهار مقته له وتسخيف سعيه القضائي وكأنه يواري جرماً لا يريده أن ينكشف.

بوتين الجاسوس الأسطوري قليل الكلام، وحتى إن تكلم فإنه يرصف كلماته بدقة لا تحتمل الشطط. وفي قلة هذا الكلام ما يوحي لخصمه أن ما يعرفه كثير وما يسيطر عليه هائل، وأن في أدراجه وثائق وأوراقا وأشياء لا تقال. يصغي الرجل بهوس، يلتقط هفوات وزلات الخصم ويجني الثمار في كل المواسم.

لا خجل ولا خطوط حمراء في عرف “البزنس مان” فالمهم توقيع الصفقة. يقول ترامب كلاما في الليل يمحوه النهار. في عالم “البزنس مان” يعتبرون ذلك حذاقة ورشاقة. ينحني ترامب بخفة أمام بوتين في مسألة تدخل روسيا المزعوم في الانتخابات التي أتت به رئيسا. وحين يعود لبلاده يلعق بوقاحة كلامه، يغير أقواله ويكمل نهاره رئيسا للولايات المتحدة.

ربح بوتين الجولة كاملة في هلسنكي. لم يفعل ترامب سوى الإقرار لبوتين بما سبق أن أقره بأسلوب أكثر خبثا سلفه باراك أوباما. لم يتكلم ترامب عن أوكرانيا والقرم ولا عن الهجوم الكيمياوي ضد العميل الروسي سيرجي سكريبال في بريطانيا. نصب بوتين الفخ بذكاء بالغ في تقديم مرافعة تنفي مزاعم تدخل بلاده في الانتخابات الرئاسية الأميركية. طرب ترامب وأثنى دون تردد على رواية بوتين، وراح الأخير يستمتع في اليوم التالي بما قيل إنها “صدمة في واشنطن” من أداء ترامب المهين.

بدا أن بوتين فاز بكل أوراقه في السياسة الخارجية. باتت أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وراءه. هو السّيد من غير منازع في سوريا، وهو الزعيم الذي يقرر موقفه مسار إيران المقبل. قدم رئيس الولايات المتحدة للعالم روسيا دولة كبرى لا طائل من معاندتها، وقدم للشرق الأوسط روسيا بصفتها الطرف الأقوى الجديد في المنطقة. أخذت طهران وتل أبيب ودمشق وبيروت علما بذلك، وتستعد باقي عواصم المنطقة لإعادة التموضع وفق هذا المعطى النهائي الجديد.

على هذا تهاجم صحيفة مقربة من نظام دمشق مستشار المرشد الإيراني لأنه تجرأ على الإدعاء أن جهود طهران وراء عدم سقوط النظام. وعلى هذا عرض المدير التنفيذي للشركة الوطنية لتصدير الغاز الإيراني مهران أمير معيني على الولايات المتحدة الاستثمار في قطاع الغاز الإيراني إذا رغبت في تقليص الاعتماد على الغاز الروسي، نقترح عليهم الاستثمار في قطاع الغاز الإيراني. وعلى هذا ما يتسرّب في بيروت أن سعد الحريري ينهل قوته أمام ضغوط خصومه من حماية روسية تجلّت في الاهتمام الخاص الذي يوليه بوتين للحريري رئيسا للحكومة في لبنان.

ترامب أبلغ من يعنيهم الأمر أن العصر عصر بوتين، وأن “البزنس مان” ينحني للجاسوس العريق.