وصل رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل إلى ما لم يصل إليه أحد في موقعه في تاريخ السياسة اللبنانية. سريع المناورة، وسريع البديهة المبتكرة للأفكار. لا قدرة مماثلة لباسيل لدى أي سياسي في لبنان، على تحويل ما عليه لمصلحته، ولغيره له. يتقن تكتيك رمي القنابل والمواقف. ما يميّز باسيل عن غيره جرأته وصراحته في إطلاق أي موقف بمعزل عن التداعيات، وتقديم نفسه كثائر على كل ما يدخل في إطار التقاليد والأعراف. يبدو باسيل كمن يركب قطاراً يسير في اتجاه واحد بسرعة قياسية، وعند كل محطّة يعرف كيف يرمي قنبلة تمهد أمامه مزيداً من التقدّم، ومزيداً من قضم العوائق والعقبات.

باسيل أكثر من يجيد الانقلاب على تفاهمات تلزمه أو تحرجه أو تحصره في إحدى الزوايا. ما جرى في اتفاق معراب، وإعلانه أنه أبلغ القوات بتعليقه خير مثال. وهذا يتكرر مع تيار المستقبل. خاض باسيل مواجهات لم يخضها أحد، لا في السلم ولا في الحرب، مع هذا العدد من القوى السياسية مجتمعة أو متفرقة. هو الأكثر استفزازاً للجميع، والمغضوب عليه من الجميع. قد يكون محقّاً وقد لا يكون، لكنه يجيد تحصين نفسه ومواقفه وابتكار المسوغات التي تدفعه إلى إعلان ما يقوله. تارة حقوق المسيحيين، وطوراً الميثاقية، وأطواراً التمثيل الشعبي واحترام إرادة الناس. عند كل هذه العناوين تسقط التفاهمات وما تمليه.

أصبح مؤكداً أن علاقة باسيل مع شريكه في العهد والتسوية سعد الحريري متراجعة، إن لم نقل متدهورة. التقط الحريري إشارات متعددة باكراَ، بأن باسيل ما بعد الانتخابات غير ما قبلها، وما بعد نادر الحريري غير ما قبله. وكأن الرجل يريد الانتقام لنادر، ليس من سعد بالضرورة، بل ممن دفع نادر إلى الابتعاد. ذهب إلى الحريري في باريس وقدّم له صيغة حكومية، كأنه يريد فرضها عليه. رفض الحريري الصيغة، فيما باسيل نفى أي علاقة له بتشكيل الحكومة. وحين ذهب الحريري للقاء الرئيس ميشال عون في بعبدا، طلب عون مهلة للتشاور مع باسيل، وحينها أبلغ رئيس الحكومة المكلف دوائر القصر بأنه لن يذهب إلى بعبدا ما لم يحصل أي تقدّم على صعيد التشكيل. وهذا يكون مقروناً بتنازل التيار الوطني الحر.

لكن ميزة باسيل أنه قادر على تحويل العرقلة التي يتهّم بها إلى عملية تسهيل، ووضع النقاط على الحروف وتوضيح للرسم البياني. هو يهندس خطواته ومطالبه قبل أن يدرسها سياسياً. منذ بداية حياته السياسية كان مختلفاً. في الوقت الذي كان التنافس فيه وزارياً ينحصر على الحقائب السيادية، كان يضع ناظريه على حقائب أخرى من الاتصالات إلى الطاقة، واليوم وزارة الأشغال. يطالب باسيل صراحة بوزارة الأشغال، وهذه قد تكون عقدة تفوق حجم كل العقد الدرزية أو المسيحية أو السنية أو حتى الثلث المعطّل. ما يريده باسيل مع وزارة الأشغال هو جملة مشاريع ضخمة، من طرقات وبنى تحتية للبنان ككل، واستحداث أتوسترادات تتمول من مؤتمر سيدر، وصولاً إلى مشروع للنقل المشترك، وللمطار في بيروت أو ربما غيره، وخطة لشركات طيران جديدة.

يجيد باسيل تصوير نفسه مخلّصاً منتصراً في كل آن. يقارع الرئيس نبيه بري، يواجه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، حربه مفتوحة مع القوات، والقطيعة مكرّسة مع رئيس تيار المردة سليمان فرنجية. والآن حان دور الرئيس سعد الحريري وصلاحيات رئيس الحكومة. يرفع الرجل لواء الرئيس القوي. وهذا يعني أن يوجد رئيس كميشال عون، لا يمكّن رئيس الحكومة من الاستئثار بصلاحياته ولا بالبلد ومؤسساته. خسر باسيل فرصة فرض شروط بسلاسة على الحريري، لذلك يحاول استخدام أسلوب الضغط. يجاهر أن مهلة التكليف بدأت تنفذ. وهذا تهديد للحريري، بأن عليه الإسراع بالالتزام بالشروط، أو الذهاب إلى عصيان سياسي يقوده أكثر من 65 نائباً يطوقون تكليفه، وينقلون النقاش في البلد من تناتش على الحصص إلى بحث في إعادة صوغ آلية إدارة الدولة وشؤونها.

قبيل الانتخابات النيابية بأيام قليلة، أطلق رئيس الجمهورية ميشال عون موقفاً لافتاً تحدث فيه عن وجوب تشكيل حكومة أكثرية انسجاماً مع الانتخابات النيابية ونتائجها. في حينها، لم يوافق كثر على قراءة الموقف بأنه إشارة مبطّنة حول إمكانية الانقلاب على التسوية والصفقة مع الحريري. كانت هذه رسالة تحذير، يعيد باسيل صوغها واستخدامها حالياً، بقوله إن مهلة التكليف بدأت تنفذ، ولا يسقط من خياراته احتمال الذهاب إلى حكومة أكثرية تنسجم مع نتائج الانتخابات.

حين فازت قوى الرابع عشر من آذار بانتخابات العام 2009، كان باسيل وعون أكثر المعارضين لمنطق حكومة الأكثرية، ويطالبون بتوزيع المقاعد وفق توزيع النواب. وهذه نقطة جديدة يثبت فيها باسيل قدرته على إجراء تحولات في المواقف، وفق مصالحه. في السابق، كان فريق باسيل يرفض اعطاء حصة وزارية لرئيس الجمهورية، بينما اليوم يطالب بها. إذا ما اشتهرت الدول العربية بميزة الانقلابات، فإن باسيل في لبنان هو رجل كل الانقلابات، حتى أنه أصبح سيد الانقلابات في الأدوار. وهذا ما يقوله في معرض نفيه تدخله في عملية تشكيل الحكومة، ممرراً إشارة بأن الحريري هو الذي طلب منه الكلام. وهنا، يقلب باسيل الأدوار أيضاً، ولا يجد من يوقف سكّة القطار.