سأبدأ من حيث أنهى غسان صليبي مقالته انشغالات الحراك المدني عندما تكلم على المقاربة المثالية، ليس هرباً من النقاش إنما إيماناً مني أن النقاش يجب أن يكون تكاملياً وليس تراشقياً. 

فإذا كانت قراءة البعض لتجربة "كلنا وطني" سلبية فذلك يعني أن تقديمنا وشرحنا لها لم يكن جيداً بما فيه الكفاية، والوقت قد ولى، واليوم التحدي هو بناء المستقبل لا التحسر على أخطاء الماضي وإن استخلصنا العبر منها.

أولاً لا مقاربة مثالية إنما مقاربات مختلفة ومتكاملة قد يؤدي تقاطعها المرحلي إلى إيجاد لحظة مثالية "Momentum" تسمح لقوى التغيير بإحداث قفزة نوعية. ولكن بناء كل استراتيجية العمل السياسي بحثاً عن هذه اللحظة المثالية خطأ قاتل. فلنترك تعريفها ونقاشها لمقالات أخرى.

ماذا تعلمنا مما حصل في آخر انتخابات هو ما يهم القارئ، ولكنه مهتم أكثر بمعرفة كيف سنبلور خطط عملنا بشكل نستطيع الاستفادة من هذه التجارب.

بداية لا بد من الاعتراف بأن رواد التغيير خسروا في هذه المعركة الانتخابية، خسروا لأسباب كثيرة أولها عدم قدرتهم على تقديم برنامج مشترك، موحد وقادر أن يظهرهم كخيار جدي لإعادة بناء الوطن الذي نريد. لماذا وكيف حديث طويل ليس مكانه هنا. أفضل أن أستفيد من هذا الرد لأقول رؤيتي لإحدى المقاربات التي قد تساهم في خلق هذه اللحظة المثالية.

بداية هدفنا من خلال تنظيم صفوفنا ليس الوصول إلى السلطة بقدر ما هو العمل على تغيير المجتمع كي يصبح أكثر تقبلاً لرؤيتنا السياسية ومشروعنا المجتمعي. نريد لهذا المجتمع الذي نحن جزء أساسي منه أن ينطلق صوب القرن الثاني والعشرين بدل البقاء ملتزقاً بالقرن التاسع عشر وقبليته وطائفيته.

يحق لنا ولأولادنا أن نعيش في وطن تحرر من 1840 و1860 أقله، وطن ومجتمع أعاد قراءة تاريخ حروبه العبثية منذ تلك الحقبة حتى أمس لأننا وللأسف ما زلنا نعيش فترة حرب باردة بين كل معركتين.

مشروعنا للغد يجب أن يبنى على قراءة سياسية مشتركة وواضحة للعمل لبناء دولة تحمينا وتكون علمانية تشاركية تساووية عادلة وضامنة للجميع.

علمانية

علمانية من دون لف أو دوران فلا مجال لأنصاف الحلول في الحقوق والواجبات. بعلمانيتها نريد التأكيد فصل الدين عن الدولة، وتوحيد المناهج التربوية وشطب إشارة الدين او الطائفة أو المذهب في السجلات ومنع أي إحصاءات ترتكز على التمييز الديني وحظر اي عمل حزبي من منطلق ديني. هذه العلمنة هي هدفنا ويجب أن تبدأ بقانون أحوال شخصية موحد وشامل من الحضانة الى الزواج فالإرث.

تشاركية

تشاركية، لأن السياسة ملك للجميع وفرص العمل السياسي يجب أن تكون متكافئة من خلال قانون أحزاب ينظم العمل الحزبي ويضع أطراً تمويلية واضحة له تتضمن جزءاً من التمويل من قبل العام ويحظر أي أحزاب تمييزية تحت أي مسمى كان. جميع مناصب الدولة يجب ان تكون عرضة للمساءلة والمحاسبة المباشرة ويجب ان يكون لدى المواطنين آليات تسمح لهم بطلب استفتاءات حول مواضيع تخدم الصالح العام أو المحلي. التشاركية تفترض توزيع القرار بشكل متوازن بين مركزه الطبيعي في العاصمة وبين المناطق من خلال قانون يضع الأطر التشريعية لهذه التشاركية.

تساووية

تساووية، وإن كانت الكلمة غير موجودة في المعجم، ألا إن الجميع يفهم مغزاها العميق. لماذا نناضل نحن التغييرين لبناء دولة إذا كانت ستكون عنصر تمييز او اضطهاد لمواطناتها ومواطنيها؟ فمشروعنا بناء دولة يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات والفرص. دولة لا تمييز فيها لا على أساس اللون ولا الدين ولا الجندر ولا الميول الجنسية. دولة تسعى إلى جعل مبدأ تكافؤ الفرص حقيقية واضحة وتحارب الزبائنية ورديفها الفساد.

عادلة

عادلة من حيث إرساء سيادة القانون واحترام التزاماتها الدولية ولكن أيضاً تجاه المواطن. عادلة من حيث توزيع الثروات واعتماد سياسات ضريبية عادلة تجعل من الضريبة مساهمة في الجهد المشترك وليس عقابا. عادلة من حيث تسهيل العلاقة بين المواطن واجهزة الدولة بالاتكال على الحلول الجديدة والخروج من غبار القرن الماضي. عادلة بقضاء مستقل واجهزة امنية تحت سقف القانون لحماية المواطنين وليس قمعهم.

أخيراً ضامنة، فما نفع ما سبق من دون دولة ضامنة لنا على كل المستويات اجتماعياً وأمنياً وعسكرياً؟ دولتنا يجب أن تجترح الحلول لحماية الحدود من الأخطار الخارجية وهي وحدها تقرر كيفية القيام بذلك. ضامنة لأمننا في الداخل ضد الارهاب والسلاح المتفلت والجريمة اياً كانت. ضامنة لسيادتنا الاقتصادية وامننا الاجتماعي. ضامنة لجميع الحريات والحقوق. ضامنة لحق الجميع في الاستفادة من ضمانتها ولكن ايضا للمشاركة في حماية الوطن التي لا تكون الا من خلال الدولة وما ترتئيه. هذه الدولة لا ترضى بتجيير سياساتها الدفاعية أو الدبلوماسية لأي كان وتعمل جاهدة لاستعادة كل صلاحياتها التي سُلبت منها بحجة أو بأخرى.

ليس سهلاً...

ما سردته ليس سهلاً ويتطلب جهداً كبيراً لترجمته عملياً، فليكن ومن ادعى أن التغيير ضربة عصا سحرية.

أول الغيث لهذه المقاربة هو بناء إطار تنظيمي يشبه هذا المشروع. بناء تنظيمي يحمله قادة لا زعماء، قادة قادرون على تداول مراكز القرار وتحفيز جيل الشباب لأخذ مكانته الحقيقية. قادة يحترمون المساواة الجندرية عملاً لا قولاً ولا يختلقون الحجج تلو الحجج للبقاء في مناصبهم وأخيرا قادرون أن ينضووا ضمن إطار متجانس مكون من أفراد قراراهم حر وليسوا مرتبطين بأي أطار آخر. المقاربة يجب أن تكون وطنية قادرة على العمل في كل لبنان وألا تحصر عملها في بيروت وضواحيها. لإجابة أخيرة على السؤال الأول، لا حلول مقولبة لمواجهة السلطة إنما إرادة أفراد قادرين على التعالي عن أنانيتهم الفردية لبناء الصالح العام.

"تحالف وطني" كي يكون رافعة هذا الإطار يتوجب عليه أن يتعالى على ما حصل قبل الانتخابات وأن يدعوا كل قوى التغيير غير المتورطة مع السلطة ولكن أيضاً غير الطائفية والعنصرية لمؤتمر عام هدفه إطلاق كيان سياسي جديد يصبو للتغيير الحقيقي من خلال العمل السياسي المباشر في كل المجالات أكانت وطنية، بلدية، مهنية، نقابية أو طالبية.

هذا المؤتمر يجب أن يكون متوجاً لعمل لجان تحضيرية قادرة على الانفتاح على الجميع ضمن الضوابط المحددة آنفاً. هذا التحضير يجب أن يكون لامركزياً ويعتمد على التجارب المناطقية التي أثبتت خلال الفترة المنصرمة نجاحها وكذلك المستقلون الذين انضووا في لوائح "كلنا وطني" أو ممن لم يقتنعوا بمقاربتنا آنذاك.

"تحالف وطني" أمام تحدٍّ واضح في هذا المجال فإما أن يرتفع الى إطار متجانس وأن تكون المجموعات المكونة على قدر المسؤولية الوطنية بتحريره من أعبائِها وتارِيخها بسلبياته وإيجابياته فيكون الرافعة لكل رواد التغيير لبناء هذا الإطار الجديد الذي نقبل طواعية تجيير نضالاتنا المطلبية له ليكملها في السياسة، أو أنَ أنانية بعض المجموعات ستقتله في المهد وعندها قدرنا كتغييرين البحث عن إطار جديد على قدر أحلامنا.

(وديع الأسمر)