كيف تريد إيران أن يصدق شيعة العالم أنها احتلت العراق لحماية شيعتها العراقيين من أعدائهم الإرهابيين، وهم يرونها تتسلط عليهم، لإذلالهم وإفقارهم وتجويعهم، أسوأ أبنائهم الإرهابيين والمنافقين والمزورين والمختلسين، وأكثرهم فسادا ونفاقا وانتهازية وجهالة.
 

ليس أمام حكام المنطقة الخضراء للخروج من مأزق الانتفاضة المباغتة التي لم يحسبوا حساب اشتعالها بهذه القوة وبهذا الحجم والحرارة والاندفاع والانتشار إلا بخيارين. إما بإنسانية الملك عبدالله الثاني الحكيمة والحريصة على حقن دماء الأردنيين وتلبية مطالبهم بالحسنى، وإما بهمجية بشار الأسد الذي أضاع كرامته وكرامة وطنه وشعبه، وصار حارسا روسيا على خرابة اسمُها سوريا وكانت زاهرة وعزيزة وقوية وموحدة ذات يوم.

ويبدو من أوامر مندوب حزب الدعوة لدى حكومة المحاصصة، حيدر العبادي، ومعه قادة ميليشيات الحشد الشعبي بقيادة زعيمهم المكلف بإدارة المعسكر الإيراني في العراق، هادي العامري، أن الذي كان، والذي سوف يكون هو المواجهة الدامية بين الجماهير المنتفضة وبين جلاوزة الأحزاب الدينية الحاكمة التي يسيّرها قاسم سليماني وضباط فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني، حتى لو جعلوا العراق خرابة كما فعلوا ذلك بسوريا واليمن ولبنان.

فقد اخترعوا ذريعة المتسللين على الانتفاضة، ثم ابتدعوا أكذوبة حماية مؤسسات الدولة من التخريب، لشرعنة قتل المتظاهرين وإسكاتهم بقوة السلاح، رغم أن رئيس حكومة حزب الدعوة أفتى بالقتل دون استخدام الرصاص، وهو يعلم بأن قادة الميليشيات لا يشترون أوامره بدينار.

وبالاستناد إلى معلومات من داخل الانتفاضة، وإلى ما تناقلته وكالاتُ أنباء محايدة فقد سال دم عراقي غال وعزيز بغزارة في أكثر من مدينة، رغم أن سلطات النظام اعترفت ببعض حالات قتل، لكنها لم تعلن عن أعداد المصابين والمعتقلين والمُغيّبين والمُختطَفين.

وهنا صار في إمكاننا أن نتكلم. فهذه الانتفاضة الشعبية الغاضبة لم تندلع في تكريت ولا في الفلوجة والرمادي وسامراء وبعقوبة وبيجي والشرقاط، بعد أن ذاق أهلها أكثر من غيرهم، على أيدي جنود هذه الحكومة وشرطتها وميليشياتها كلَّ أنواع الظلم والغدر والإذلال والتهجير، بل اشتعلت في البصرة والعمارة والناصرية والسماوة وبغداد والنجف وكربلاء احتجاجا على الفقر والبطالة والفساد. وهذا يعني الكثير، باعتبار أن الإيرانيين ووكلاءهم كثيرا ما روَّجوا لأكذوبة أنهم يحكمون باسم مظلومية هذه المحافظات، ويحرُسون أمنَها وحريتها ودماء أبنائها.

وهو يعني أيضا أن الجماهير الشيعية أصبحت تسأل، ما فائدة حكوماتٍ وأحزاب وميليشيات تتغنى بمقدسات الطائفة، وتلطم وتبكي على أئمتها، نفاقا وتقية، وهي تزيد أبناءها فقرا على فقر، وشقاءً على شقاء؟

ولو أن الفقر الذي تعيشه الملايين في المحافظات المنتفضة كان من صنع الله ومن قدره وقضائه، لكان الصبرُ عليه ودعوةُ الله إلى التعجيل بتفريج غمته عن عباده الصابرين هما علاجَه الوحيد، باعتبار أنْ ليس بالإمكان إلا ما كان.

ولكن حين يكون الجوع والعطش والمرض وخرابُ البيوت من صنع هؤلاء الحكام وأبنائهم وخدمهم وأحزابهم، فلا علاج له سوى الثورة والصمود حتى النصر النهائي، مثلما فعلت جماهيرُ شُجاعة في بلادٍ كثيرة كبلادنا فأسقطت الدكتاتوريين والفاسدين، ورمت بهم إلى جهنم وبئس المصير.

تُرى، كيف تريد إيران أن يُصدّق شيعةُ العالم بأنها احتلت العراق لحماية شيعتها العراقيين من أعدائهم الإرهابيين، وهم يرونها تتسلط عليهم، لإذلالهم وإفقارهم وتجويعهم، أسوأَ أبنائهم الإرهابيين والمنافقين والمزورين والمختلسين، وأكثرَهم فسادا ونفاقا وانتهازية وجهالة، ثم حين تقتضي مصالحها الانتهازية العابرة تقطع عنهم الماء والكهرباء، وتحاصرهم بالبطالة، وتغرقهم بالمياه الآسنة، كما هو الحال في البصرة. وفي العمارة والناصرية والسماوة والنجف وكربلاء، تُجوّعهم وتقتل منهم كثيرين بدم بارد، تماما كما تقمع شيعتها الإيرانيين بالنار والحديد؟

نعم، لقد دسُّوا على الانتفاضة من يعتدي على الممتلكات والمؤسسات ليبرروا هدر دم الذي سيُثبتون عليه تهمة الاندساس، وقد يتمكن قاسم سليماني وهادي العامري وقيس الخزعلي، بميليشياتهم وأسلحتهم الخفيفة والثقيلة، من أن يُطفئوا شعلة الثورة، ويُسكتوا رجالها ونساءها، وشيوخها وشبابها، ولكن الذي زرعته هذه الانتفاضة في عقول ملايين العراقيين وقلوبهم وضمائرهم لا بد أن يُشعل لهيبها من جديد في قادم الأيام أو الأسابيع أو الشهور.

لقد كشفت أولا عن انتهازية رئيس الوزراء القيادي في حزب الدعوة، حيدر العبادي، حين أصدر قرارات عاجلة بـ”توسيع وتسريع آفاق الاستثمار للبناء في قطاعات السكن والمدارس والخدمات، وإطلاق درجات وظيفية لاستيعاب العاطلين عن العمل، وإطلاق تخصيصات مالية لمحافظة البصرة بحوالي ثلاثة مليارات دولار فورا”. وقد فهم المنتفضون أنها جزرة يرشُو بها البصريين، ولكن العصا مخبأة تحت ثيابه وثياب رفاقه المسلحين.

خصوصا وأنه لم يقدّم شيئا لأبناء المحافظات الأخرى، في الجنوب والوسط والشمال، ربما لأنهم في نظره مرفّهون، ومُكتفون، ولا يحتاجون لهدايا حزبه وعطاياه. فتكريت أصبحت دبي، والرمادي أبوظبي، وأحوال النجف وكربلاء والناصرية والعمارة تبهَر الناظرين والسامعين والقارئين، وكأنها باريس وفيينا ولندن وجنيف.

ثم أثبتت الانتفاضة شيئا آخر أهم، وهو أن الحشد الشعبي وقوات بدر والنجائب والعصائب وحزب الله العراقي، وحلفاءها، زراعةٌ إيرانية خالصة، وإنها حرس ثوري عراقي جديد متأهب لكي يرش بالدم كل من يتطاول على المرشد الأعلى أو على الحاج قاسم سليماني. أما العراق والطائفة والدين فليس لها حساب.

ولعل أهم ما كشف عنه المنتفضون هو نفاق المنافقين، وسكوت الساكتين الذين يرون الحـق وهو يُذبح، علنا، بسكاكين الولي الفقيه ووكلائه العراقيين، ثم يُطنشون ويتفرجون.

فلم نسمع نحن وهُم واحداً من رؤساء أميركا وأوروبا وروسيا والصين يندّد أو يشجب أو يدين، حتى وإن كانوا يقولون ما لا يفعلون.

ثم أين هم السياسيون أصحاب الوجاهة والزعامة والنيابة عن أبناء الطائفة السنية؟ وأين مَضافاتهم وندواتهم ومؤتمراتهم التي يعقدونها خارج الوطن، وهم الذين دوّخوا الدنيا ببكائهم على العدالة المفقودة والمساواة والكرامة، وبأحاديثهم عن الحاجة إلى أحزاب وائتلافات وتجمعات وطنية عابرة للطوائف والأديان والقوميات، وبتصريحاتهم التي لم تنقطع عن ضرورة إلغاء المحاصصة، وإقامة حكم وطني رشيد؟

فإن كان سكوتُهم خوفا من السلطة ومن إيران، فوا أسفا على الرجولة والشهامة والأصالة والفداء. وإن كان سببا طائفيا، باعتبار أن المنتقضين شيعة، وفخّار يكسّر بعضه، فذاك أقبح وأكثر عيبا ونقيصة.

فكيف يمكن أن يقف عراقي واحد وطني وشريف متفرجا على أشقاء له وهم يتساقطون دفاعا عن حرية وطن واحد للجميع، وفداءً لكرامة شعب واحد لن تستطيع أن تفرّقه إيران، ولا الأكبر ولا الأقوى من إيران ومن نظامها الآيل للسقوط؟