يا ألف رزق الله على أيام زمان، وقضاء أيام زمان
 

على وقع البلبلة التي خلّفتها حادثة استقالة أحد قضاة مجلس شورى الدولة بعد تعرُّضه للمساءلة بأمورٍ حسّاسة تنالُ من هيبة القضاء ونزاهته وحياديّته، خطر على بالي أن أسرُد هذه الحكاية من الزمن الغابر، زمن القضاة العدول.

كُنّا طُلّاباً في دار المعلمين والمعلمات أواخر ستينيات القرن الماضي، كُنّا في مقتبل العمر، وقد تخرّجنا تمهيداً للالتحاق بالمدارس الرسمية التي تُعيّنها لنا وزارة التربية الوطنية، وقمتُ مع بعض الزملاء بزيارة إحدى الزميلات في منزلها في بيروت، وكان والدها قاضٍ كبير، ذاعت شهرتُه لكفائته ونزاهته وكبريائه، ونحن جلوسٌ بين يديه، يُخبرنا عندما نال شهادة "البريفة" أواخر ثلاثينيّات القرن الماضي، إذ زارهُ في منزله مدير المعارف (وكان لبنان تحت الانتداب الفرنسي، ولم يكن هنالك وزير للمعارف، للتّقشُف ربما) ليطلب منه الإلتحاق بسلك التعليم، إذ دخلت عليه زوجته لتخبره أنّ ابنته (أي زميلتنا) قد عُيّنت معلّمة بعد تخرجها في بلدة "ينطا"، وهي بلدة في قضاء راشيا الوادي، على ارتفاع أكثر من ألف متر، وتقع على الحدود السورية-اللبنانية، وكانت (وما زالت ربما) معبراً لتهريب المقاتلين والسلاح بين البلدين، ثمّ طلبت منه أن يتدخّل مع أحد معارفه لنقلها من هذا المكان النائي، فأجابها مستنكراً: أنا أتدخل! وتعلمين أنّي لا أطلبُ طلباً من مخلوقٍ خلقه الله! فقالت: وما تفعلُ البنت؟ لا يمكنها الذهاب والعيش آخر الدنيا، ليُجيبها: هذا ليس من شأني، أنت وابنتك، هذا شأنُكنّ، قالت: مستحيل أن تذهب إلى ينطا، فقال بكلّ بساطة: فلتستقل إذاً.

بعد المواجهة التي انتهت بحلّ استقالة الزميلة قبل مباشرة عملها، وإذ رأى علامات الدهشة والاستغراب على وجوهنا، أوضح موقفه قائلاً: تعرفون، أنا من بلدة تبنين (الجنوبية)، ولطالما بادلني أهالي بلدتي العداء والجفاء، لامتناعي عن قضاء معظم طلباتهم واحتياجاتهم، عندما كانوا يلجأون إليّ طلباً للمساعدة والمعونة لدى المسؤولين والنافذين وأصحاب البنوك والمؤسسات، ذلك أنّني كنتُ أتخيل في حال طلبي من أحدهم خدمةً ما، أن يمثُل أمامي في يومٍ من الأيام، لأحكُم له أو عليه، فما عساي أن أفعل حينئذٍ، إن حكمتُ له، لربما قال وقد ذكر يدهُ عندي: لقد غبنتني حقّي كله، وإن حكمتُ عليه، فسيقول حتماً: لقد ظلمتني.

يا ألف رزق الله على أيام زمان، وقضاء أيام زمان.

إقرأ أيضًا: جوقة الممانعة في جريدة الأخبار .. تُهم فساد مُلفّفة بحقّ وزير الصحة