بغياب رؤية موحدة وانقسام على الآلية
 

لا تزال أعداد النازحين السوريين العائدين إلى سوريا، رمزية مقارنة بالعدد الإجمالي للموجودين في لبنان، في ظل آليات عشوائية متبعة لإعادتهم لا تختلف كثيراً مع السياسة الفوضوية التي انتهجتها الدولة اللبنانية منذ انطلاق موجات النزوح بُعيد اندلاع الأزمة السورية. وتتعاطى غالبية القوى السياسية مع ملفّ الوجود السوري في لبنان كملف داهم يتوجب معالجة سريعة تقوم على إعادة النازحين إلى بلادهم بعدما باتوا يشكلون، بحسب تأكيد أكثر من مسؤول لبناني وعلى رأسهم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون «عبئاً اقتصادياً واجتماعياً كبيراً» مع ارتفاع نسبة البطالة بين اللبنانيين.

 

يَرد في سجلات مفوضية الأمم المتحدة في لبنان حالياً أن نحو 995 ألف لاجئ يوجدون حالياً على الأراضي اللبنانية موزعين على المناطق كافة، في وقت كان هذا العدد قد بلغ في السنوات الماضية المليون والنصف المليون. وبحسب صندوق النقد الدولي، فإن لبنان يتحمل أعباء النازحين التي تقدر بنحو سبعة مليارات دولار بينما تعاني الدولة اللبنانية أصلاً من عجز اقتصادي، إذ كانت نسبة النمو قبل اندلاع الأزمة السورية 8 في المائة وأصبحت اليوم 1.1 في المائة.

وكان لافتاً، الأسبوع الماضي، دعوة النظام السوري وللمرة الأولى منذ اندلاع الأزمة السورية، عبر وزارة الخارجية والمغتربين، النازحين الذين غادروا البلاد للعودة إلى وطنهم، كما دعوة المجتمع الدولي لتحمل مسؤوليته في هذا الخصوص للمساهمة في توفير متطلبات العودة الطوعية. ونقلت وكالة «سانا» السورية الرسمية عن مصدر في وزارة الخارجية دعوته «المواطنين السوريين الذين اضطرتهم الحرب والاعتداءات الإرهابية لمغادرة البلاد للعودة إلى وطنهم الأم بعد تحرير العدد الأكبر من المناطق التي كانت تحت سيطرة الإرهابيين».

ولوّح الرئيس اللبناني في مايو (أيار) الماضي باللجوء إلى «حلّ لمشكلة النازحين السوريين في لبنان بمعزل عن رأي الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي»، معتبراً أن قضيتهم «باتت مسألة وجودية تتعلق بأمن لبنان واستقراره وسيادته».

وقال عون خلال استقباله وفداً من البرلمان الأوروبي إن «الخلاف الحاصل بين لبنان والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة في شأن قضية النازحين السوريين، سيدفع لبنان إلى العمل لإيجاد حل لأزمة النازحين بمعزل عنهما»، معتبراً أن «تداعيات النزوح كبيرة جداً على لبنان، خصوصاً أن بنيته التحتية لا تمكنه من استقبال هذا الكم من النازحين وما يترتب على الأمر من مسؤوليات وتبعات».

وفعلياً، أصدر وزير الخارجية جبران باسيل تعليمات إلى مديرية المراسم لإيقاف طلبات الإقامات المقدمة إلى الوزارة، والموجودة فيها لمصلحة المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في لبنان. وقد جاء قرار باسيل هذا غداة إرسال بعثة إلى منطقة عرسال الحدودية «تبيّن لها من خلال مقابلاتها مع نازحين سوريين راغبين في العودة إلى سوريا طوعياً، أن المفوضية تعمد إلى عدم تشجيعهم على العودة، لا بل إلى تخويفهم عبر طرح أسئلة محددة تثير في نفوسهم الرعب من العودة نتيجة إخافتهم من الخدمة العسكرية والوضع الأمني وحالة السكن والعيش وقطع المساعدات عنهم وعودتهم من دون رعاية أممية».

وتصر مفوضية اللاجئين على أنها تعمل «وفق معايير دولية أساسية ولا تقوم بتخويف اللاجئين»، لافتة إلى أن التحدث إليهم كان بهدف «معرفة قرارهم وسبب اتخاذهم له»، ومشدّدة على أن المفوضية «تحترم قرار كل لاجئ يريد العودة».

 

«حزب الله» يتدخل

وباشرت أعداد صغيرة من النازحين السوريين العودة إلى سوريا، فرغم انطلاق هذه العملية العام الماضي، ولكن بوتيرة خفيفة، ارتفعت الوتيرة هذا العام. فسُجلت في أبريل (نيسان) الماضي عودة نحو 500 نازح من بلدة شبعا، وبعض قرى العرقوب المجاورة في جنوب لبنان إلى بلدتيهم في بيت جن ومزرعتها في المقلب الشرقي من جبل الشيخ بمحاذاة هضبة الجولان المحتلة. وتحدث النازحون العائدون عن «ضمانات تلقوها بعدم اقتياد المطلوبين للخدمة العسكرية الإجبارية». وغادر، الشهر الماضي، 293 نازحاً بلدة عرسال الواقعة شرق لبنان إلى فليطا والقلمون الغربي في المقلب كما سجل نحو 3000 أسماءهم للعودة في ظل مطالبة كثيرين غيرهم إعادة فتح باب التسجيل، ما يوحي بتنامي الرغبة لدى السوريين المقيمين في لبنان للعودة إلى بلدهم.

وقالت نائب رئيس بلدية عرسال ريما كرنبي إن المئات من السوريين يتوافدون إلى مبنى البلدية بشكل يومي كما إلى منزلها للمطالبة بالعودة، لافتة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن البلدية لا تقوم بأي مهمة في هذا الإطار، باعتبار أن لجان سوريا مختصة هي تتولى عملية تسجيل الأسماء والتواصل مع النظام السوري لتنظيم العودة.

ويقيم حالياً في بلدة عرسال، بحسب كرنبي، نحو 60 ألف نازح يرغب عدد كبير منهم بالعودة إلى سوريا بعد أن سمعوا ممن سبقوهم أنهم يعيشون بأمان، وأن قسماً كبيراً منهم يعمل حالياً في مجال البناء، ما جعل الكثيرين يتحمسون للعودة للعمل في مناطقهم وقراهم، خصوصاً أنهم يرزحون منذ أكثر من 7 سنوات تحت أوضاع صعبة للغاية، نظراً إلى المساعدات الرمزية التي تقدمها لهم مفوضية اللاجئين، وإقامتهم في خيام تفتقر الحد الأدنى من مقومات العيش.

وفي إطلالته الأخيرة، أعلن الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله عن تشكيل الحزب لجنة مختصة ستعمل على إعادة النازحين السوريين الراغبين بالعودة إلى بلدهم، من خلال إعداد لوائح تُعرض على الجهات المعنية في سوريا، على أن يتم التعاون لإنجاح العملية مع الأمن العام اللبناني.

ومنتصف الأسبوع، عمَّم الحزب بياناً حدد فيه 9 مراكز يمكن للنازحين الاتصال بها أو التقدم إليها لملء استمارات، في حال كانوا يرغبون بالعودة إلى مناطقهم وقراهم. وأكدت مصادر مقربة من الحزب أن ما يقومون به في هذا المجال «مبادرة ذاتية بعد تلكؤ الدولة في القيام بواجباتها في هذا المجال». وقال الكاتب والمحلل السياسي المقرب من «حزب الله» قاسم قصير لـ«الشرق الأوسط» إن «قرار الحزب التدخل لمعالجة هذا الملف الحساس، مبادرة منه لسد الفراغ، خصوصاً أنه يجد نفسه قادراً على تحقيق الكثير في هذا المجال نظراً إلى علاقته بالدولة السورية، وإن كان يعي تماماً أنه غير قادر على إعادة كل النازحين بل جزء منهم».

ولاقى تدخل «حزب الله» للمساهمة بإعادة النازحين ردود فعل متفاوتة، ففيما رحب «التيار الوطني الحر» بالموضوع ووصفته مصادره بأنه «خطوة ممتازة»، حذر منه رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان، وتساءل: «بين التهديد برفض تجديد الإقامات لموظفي المفوضية العليا للاجئين وإعلان (حزب الله) فتح مكاتب لتسهيل العودة، أين هي الجمهورية اللبنانية؟». كما دعا «لقاء الجمهورية» الذي يرأسه سليمان «الوزارات المعنية بشؤون النازحين إلى تحمل مسؤولياتها والإسراع بتحريك ملف العودة إلى سوريا بعد نضوج الأجواء، لأن الدولة وحدها مسؤولة عن هذا الملف، ومن غير المنطقي انسحابها لصالح أي فريق آخر».

واعتبرت نائب رئيس بلدية عرسال ألا تأثير على تدخل «حزب الله» في ملف النازحين على وضع الموجودين في عرسال باعتبار ألا وجود للحزب في المنطقة، لافتة إلى أن المهمة تتولاها لجان سوريا. لكن أمين سر تكتل «الجمهورية القوية» النائب السابق في «القوات اللبنانية» فادي كرم رأى أن «أي عملية لتسهيل عودة النازحين يُقدم عليها أي طرف نتعاطى معها بإيجابية، خصوصاً أننا في القوات أكدنا مراراً على ضرورة تأمين عودة السوريين إلى بلادهم مع قناعتنا بأن هذا الملف يستدعي تعاون كل الأطراف لتسهيل مهمة الدولة اللبنانية في هذا المجال».

وقال كرم لـ«الشرق الأوسط»: «نحن نؤيد مطالبة التيار الوطني الحر بإدراج بند العودة كبند رئيسي في البيان الوزاري للحكومة المقبلة على أن يكون على رأس أولويات هذه الحكومة»، مشدداً على «أهمية التعاون مع المؤسسات والمنظمات لدولية لتحقيق هذه العودة لا الصدام معها... أما الدعوة لاستبدال التنسيق مع المجتمع الدولي بالدفع باتجاه التنسيق مع النظام السوري فأمر غير مجدٍ».

 

حراك «الوطني الحر»

وكان «التيار الوطني الحر» وتكتل «لبنان القوي» اللذان يرأسهما الوزير باسيل أول المتحركين للدفع باتجاه إعادة النازحين. وباشر العونيون أخيراً جولة على المرجعيات السياسية والروحية للدفع باتجاه إدراج عودة النازحين السوريين بنداً أول في البيان الوزاري، على أن يليه انكباب الحكومة الجديدة على وضع الخطة التطبيقية لإتمام هذه العودة.

وأعلن «الوطني الحر» عن خطة لإعادة اللاجئين سيعرضها على مجلس الوزراء فور تشكيل الحكومة الجديدة. وهو ما أشار إليه النائب في تكتل «لبنان القوي» جورج عطا الله الذي لفت إلى إعداد «مقاربة كاملة لملف عودة النازحين السوريين تنطلق من مقدمة تتناول الموضوع تبعاً لحيثياته السيادية والوطنية وتلحظ خطة متدرجة لإتمام العودة في إطار جهود يتم بذلها مع الدولة السورية والمجتمع الدولي»، معتبراً أن العودة التي تحصل في المرحلة الراهنة لمجموعات صغيرة «لا تلبي طموحنا، وإن كان مدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم أكد أن نحو 4000 سجلوا أسماءهم أخيراً في المنطقة سيعودون على مراحل إلى بلداتهم وقراهم».

وتتفق غالبية القوى السياسية اللبنانية على وجوب عودة النازحين السوريين إلى بلادهم، لكنها تختلف حول كيفية مقاربة هذا الموضوع، ففي حين يدعو بعض الفرقاء إلى التنسيق مع النظام السوري لإعادتهم، يرفض آخرون هذه الدعوة جملة وتفصيلاً ويصرون على وجوب أن يتم ذلك بالتعاون والتنسيق مع الأمم المتحدة ومفوضية شؤون اللاجئين التي يتهمها باسيل بتنفيذ أجندة خارجية تتعارض مع المصلحة اللبنانية العليا.

وطلب عون خلال اجتماعه بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الشهر الماضي مساعدة ألمانيا في دعم موقف لبنان الداعي إلى عودة النازحين السوريين تدريجياً إلى المناطق الآمنة في سوريا، مشدداً على «ضرورة الفصل» بين هذه العودة والحل السياسي للأزمة السورية، الذي قد يتأخر التوصل إليه.

وقال بيان صادر عن القصر الرئاسي إن ميركل أبدت تفهماً للموقف اللبناني حيال النازحين السوريين، لافتة إلى أنها ناقشت أوضاعهم مع مسؤولين في الأمم المتحدة لمعرفة الظروف التي تعرقل عودتهم. وقالت إن بلادها ستعمل من أجل المساعدة في هذا المجال، مع قناعتها بأن الحل السياسي يسهم كثيراً في الإسراع بإنهاء ملف النازحين. وأوضح مصدر لبناني رسمي واكب زيارة المستشارة الألمانية إلى بيروت أن ميركل بدت مستمعة إلى الموقف اللبناني من أزمة النازحين السوريين ومتفهمة له، لكنها في الوقت عينه ظلت متمسكة بالموقف الأوروبي الذي يربط بين الحل السياسي وتحقيق العودة.

وفي كلمته خلال القمة العربية الأخيرة، قال الرئيس اللبناني إن «أزمة النزوح السوري قصمت ظهر لبنان، وجعلته يغرق بأعداد النازحين، وينوء تحت هذا الحمل الكبير اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً».

ونهاية العام الماضي، وجه رسائل خطية إلى رؤساء الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وإلى الأمين العام للأمم المتحدة كما للاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، حذّر فيها من «تداعيات أي انفجار قد يحصل في لبنان» في حال تعذر حل الأزمة السورية وعودة النازحين إلى بلادهم، منبهاً إلى أن نتائج ذلك «لن تقتصر على لبنان فقط، بل قد تمتد إلى دول كثيرة». وهو ما حذر منه رئيس الحكومة سعد الحريري أخيراً، حين لفت إلى أن «الخطر الذي قد يترتب من جراء عدم مساعدة لبنان في ملف اللاجئين، لن ينعكس علينا نحن فحسب، بل على العالم بأسره»، مشيراً إلى أن «الفشل في مساعدة لبنان سيجبر النازحين على البحث عن ملجأ بديل لهم في مكان آخر».

 

دور روسي؟

ولا يفوت لبنان فرصة لطلب المساعدة الدولية في عملية إعادة اللاجئين. وهو طرق أخيراً أبواب روسيا، إذ عرض الحريري في موسكو منتصف الشهر الماضي الملف مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبحث معه إمكانية مساعدة روسيا في هذه العملية. وقال الحريري: «كان بحثاً مطولاً في ما يخص اللاجئين وعودتهم إلى سوريا، ومساعدة روسيا في هذا الشأن، ولا سيما فيما يتعلق بشرح القانون رقم 10 الذي تم تمديده لمدة سنة، لكن لا بد من توضيح أكبر له وحث النظام السوري على شرح هذا الموضوع بشكل أفضل، كي لا يوحي بأن اللاجئين في لبنان لا تحق لهم العودة إلى سوريا». وأضاف أن «حقوق النازحين السوريين ببلدهم يجب أن تكون دائمة ويجب ألا ينتزع أحد هذه الحقوق منهم. تحدثنا مطولاً في هذا الشأن وفي شؤون المنطقة».

وكان رئيس حزب «الكتائب اللبنانية» سامي الجميل سبق الحريري للطلب من موسكو خلال زيارته إليها في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي للعب دور الوسيط لإعادة النازحين. وأفيد في حينها بأن الممثل الخاص للرئيس الروسي لشؤون دول الشرق الأوسط وأفريقيا ميخائيل بوغدانوف، كان قد أكد للجميل «استعداد روسيا لتأدية دور تنسيقي بين النظام السوري والفصائل المعارضة لإعادة النازحين السوريين من لبنان إلى بلادهم».

وقد يكون الدور الروسي فعالاً في هذا المجال نظراً إلى العلاقات الجيدة التي استطاعت موسكو أن تنسجها مع مختلف القوى اللبنانية من دون استثناء، بحيث لا يُمانع أي منهم في أن تكون روسيا وسيطاً أو حتى لاعباً أساسياً في هذا الملف، خصوصاً إذا كان من شأن ذلك أن يُجنب لبنان الرسمي التواصل مع الحكومة السورية.

واعتبرت مستشارة وزير الخارجية اللبناني لشؤون النازحين الدكتورة علا بطرس أن لروسيا «دوراً مهماً» يمكن أن تقوم به في تأمين عودة النازحين السوريين المقيمين في لبنان، بالنظر إلى كونها لاعباً أساسياً في سوريا «من خلال مساهمتها في إعادة الأمن والاستقرار والنهوض بهذا البلد». وقالت بطرس، وهي أيضاً منسقة لجنة النازحين في «التيار الوطني الحر»، في تصريحات لوسائل إعلام روسية، إن العودة الآمنة للنازحين السوريين ستكون بنداً أساسياً في البيان الوزاري المرتقب للحكومة اللبنانية قيد التشكيل حالياً، مشددة على أن ذلك يشكل مدخلاً لإزالة كثير من المعوقات السياسية الداخلية التي تحول دون الإسراع في العودة، بعدما بات اللجوء السوري «عنصراً ضاغطاً على لبنان اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً».