لدينا كتبٌ كثيرة تتضمن عروضاً للمستشرقين عن الإسلام في أزمنته الكلاسيكية. أما حاضر الإسلام أو أزمنته الحديثة فالكتب بشأنه من جانب المستشرقين بالذات قليلة جداً. ومن تلك الكتب كتاب هاملتون غب Gibb الصغير من العام 1957 بعنوان: إلى أين يتجه الإسلام؟ وقد أتت رسالته هذه بعد كتابٍ له عن الإسلام الهندي ومصائره، وسبقت كتابيه هذين دراسته الشهيرة مع أحد تلامذته عن الدولة العثمانية باعتبارها آخر الدول الإسلامية الكلاسيكية. 


غب يشعر بالحزن على انقضاء الكلاسيكية الإسلامية العريقة، وبالقلق والخوف من المستقبل على الإسلام: الدين والحضارة، وليس على الدول، لأنه لم يرَ حظاً في البقاء إلا لصيغة الدولة القومية التي أنتجتها أوروبا الغربية، وصارت هي نظام العالم.


إنّ هذا الحرص على الكلاسيكية والعراقة، والرجاء أن يجد العرب والمسلمون توازناً من نوع ما بين الحداثة وحاضر العالم من جهة، والروح الحضارية الإسلامية العريقة من جهة أُخرى، هو الأمر الذي أغضب إدوارد سعيد أشدَّ الإغضاب. فقد كره من هاملتون غب ما لم يكرهه من ماسينيون مثلاً وهو الحرص على الروح والتاريخ والعراقة، واعتبر كل ذلك نوعاً من أنواع وأشكال الخطاب الاستعماري الذي يستغرق الاستشراق كله! لكنّ إدوارد سعيد كره الطرف المقابل أيضاً: فهو لا يريد للمسلمين أن يتمسكوا بالموروث الذي صنع المستشرقون صوراً خلاّبة له، ولا يريد لهم في الوقت نفسه أن يدخلوا في حداثة تابعة. وإنما يريد لهم حداثة واعية ومستقلة ونامية تخرج من الانحطاط (الموروث) من جهة، ومن «القابلية للاستعمار» في تعبير مالك بن نبي من جهة أُخرى! إنما بغضّ النظر عن خطاب غب وهل هو خطابٌ استعماري بالفعل؛ فالواقع أنّ قراء الكلاسيكية الإسلامية من المستشرقين في الحضارة والدولة، ليسوا هم الذين صنعوا الصورة لدى الغرب عن الإسلام ديناً ونُظُماً ودولة. بل الذي صنع الصورة عن الحضارات الشرقية كلها هم الأنثروبولوجيون والسوسيولوجيون والرحالة والرومانسيون... وأخيراً فلاسفة التاريخ.

المستشرقون أو كبارهم قدموا المعلومات الخام إذا صح التعبير منذ القرن السابع عشر (حيث صارت الدراسات تُعتبر علمية!)، وظلَّ الأمر على هذا النحو حتى سبعينات القرن العشرين، وباستثناء قلة قليلة مثل برنارد لويس، ما أثر المستشرقون الكبار بالذات في الانطباعات لدى المفكرين والساسة في الغرب عن الإسلام الكلاسيكي أو الحديث. ففكرة الانحطاط في الحضارة على سبيل المثال قال بها الفلاسفة والمفكرون واللاهوتيون ما بين هيغل وماكس فيبر، وإنما أخذها المستشرقون عنهم، واختلفوا عليها، وما كان ماسينيون وغب (وهما أكبر مستشرقي القرن العشرين) من أنصارها. أما غولدزيهر وبيكر (اللذان أثرا في فيبر) فقد قالا بها جزئياً أو مع تحفظات كثيرة. ويبقى أنّ الذين قالوا بها بحذافيرها من مثل ماكس مايرهوف وباول كراوس (درّسا في الجامعة المصرية في الثلاثينات من القرن العشرين)، فما نسبا الانحطاط إلى الإسلام باعتبار ذلك جزءاً من طبيعته، بل إلى هجران كلاسيكيات اليونان التي مَثَّلَ احتكاكُها بالإسلام في زمنه المبكّر الشرارة القادحة للنهوض!


المفكرون العرب الكبار أمثال العروي وأركون والجابري، هم الذين رأَوا في الموروث منذ القرآن وما بعد عناصر ذاتية أفضت إلى جمودٍ وانحطاطٍ على مدى ألف عام، وينبغي الخلاص منها أو من هذا الموروث للتمكن من الدخول في حضارة العالم والعصر!


وعلى أي حال، وعندما ظهرت قصة نقد الخطاب الاستعماري الغربي في رؤية حضارات الصين والهند واليابان... والإسلام في الستينات والسبعينات، توازت أو تساوقت وتصارعت مع رؤى «المراجعين الجدد» الذين تتبعوا غربة القرآن والإسلام وعقائده وفقهه ودوله - عن العقل والمعقول والسلم والتنوير. ثم إنها في صيغتها الجديدة في العقدين الأخيرين تخلّت لدى الأنثروبولوجيين والسوسيولوجيين والتأويليين من خصوم العولمة، عن رؤية سعيد السلبية للمنظومة الحضارية الإسلامية، وعادت لقراءتها من جديد بإيجابية شديدة. فلدى أغامين وليبيرا وماندافيل وأكبر أحمد وسلفاتوري ووائل حلاّق ما كانت المشكلة في الإسلام في أزمنته الكلاسيكية أو الحديثة؛ بل كانت ولا تزال في الدولة الغربية الحديثة البالغة الشر والاستبداد والتي صارت هي نظام العالم، وفرضت نفسها على كل الآخرين. ومحنة المسلمين اليوم لا تتمثل في رفض الحداثة والعولمة؛ بل في محاولات التلاؤم معهما أو في الحقيقة تقليدهما في مفاهيمهما الكبرى وإنما بعناوين إسلامية. والأمثلة على ذلك كثيرة من مثل فكرة تقنين الشريعة، أي التحويل إلى قانون. وتقديس فكرة الدولة وإطلاقها مع إعطائها عنوان الخلافة، وتقديس الحرب تحت اسم الجهاد... الخ. وكل هذه أمورٌ لا تقبلها طبيعة الإسلام ولا منظومته الكلاسيكية.


وهكذا، وفي نظر نُقّاد الخطاب الاستعماري بصيغته الفكرية والفلسفية والأنثروبولوجية والسوسيولوجية في القرنين التاسع عشر والعشرين من جهة، والاستشراقية القديمة والمحدَّثة لدى المراجعين الجدد من جهة أُخرى؛ هناك حصارٌ وتأزيمٌ للمنظومة الحضارية الإسلامية، وإرغامٌ للنُخَب الإسلامية على الدخول في تلاؤمياتٍ تزيد من المأزق على خطى مقولة ابن خلدون أنّ المغلوبَ مُولَعٌ أبداً بتقليد الغالب! وقد انتهى الأمر إلى انسدادٍ في المنظومة وتفجراتٍ فيها في النظرية والواقع، فلا أهل توتاليتاريات النظام العولمي الحديث قبلوا المسلمين وتلاؤمياتهم، ولا التلاؤميون تنبهوا إلى أنّ تحويلات المفاهيم الكبرى لحضارتهم تضع دينهم وحضارتهم في مهب رياح الأصوليات والجهاديات القاتلة، والتي فرضتها الحداثة بدورها!


المفكرون العرب وتلامذتهم في النصف الثاني من القرن العشرين، حكموا على المتدينين منا بأنهم لا يستطيعون دخول العصر والحداثة وهم يحملون موروثهم على ظهورهم وفي أذهانهم. ونُقّاد خطاب الحداثة والعولمة حكموا بأنه لا يمكن للمسلم بحضارته العظيمة التلاؤم مع النظام غير الأخلاقي للعالم الحديث والمعولم. وإذا كان الإسلاميون الحزبيون وغير الحزبيين قد حاولوا ذلك؛ فإنهم وقعوا في شرِّ أعمالهم، فالغربيون ما قبلوا شراكتهم، والمفاهيم التي حرّفوها وحوَّلوها للتحديث والإرضاء، وقعت في أيدي العصابات المسلَّحة!


أذكر أنني استمعت في سنتي الثالثة والرابعة بالأزهر عامي 1968 و1969 إلى محاضرتين لروجيه غارودي وماكسيم رودنسون بصحيفة «الأهرام»، عن كيفية التعامل مع مسائل إصلاح الإسلام، وإقامة الدولة الحديثة. وكان الرجلان تصالحيين في الظاهر، لكنني فهمتُ منهما على الاختلاف في الموضوعات التي عالجاها، أنّ المرء إما أن يكون مسلماً أو يكون حديثاً، فكتبت عن المحاضرتين تلخيصاً نشرته في مجلة الفكر الإسلامي التي كانت دار الفتوى ببيروت تصدرها، فضحك الدكتور حسين القوتلي مدير دار الفتوى يومها وقال لي: أنت لم تفهم المحاضرتين! وأحسب أن الأمر لا يزال على هذا الحال إلى اليوم، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله.