مباغت هو وليد جنبلاط. يفاجئ من حيث لا يتوقّع أحد. من بعبدا إلى بيت الوسط، رسم جنبلاط سلّم الأولويات السياسية. أكثر من أربع منها تسبق عملية تشكيل الحكومة. ليس النقاش في عقدتها الداخلية أو الخارجية. هذا أمر يحال إلى الأيام. الظاهر أن المشكلة أكبر من ذلك بكثير. الاقتصاد، المؤسسات الناجحة من المصرف المركزي إلى هيئة الطيران المدني، الوضع الحدودي في البقاع، وتشريع الحشيشة، وصولاً إلى البيئة وأزمة النفايات وتلوث البحر. ليس تفصيلاً أن يذكرها جنبلاط على منبر باب الوسط، قبل حديثه عن عملية تشكيل الحكومة. خصص للحكومة جملة واحدة: متمسك بما يحق لي وفق التمثيل الشعبي والنيابي. ولا داعي للمزيد من النقاش. النقاش في مكان آخر.

بعيد زيارته إلى بعبدا انتظر كثر أن يخرج جنبلاط ليتحدث عن البحث مع رئيس الجمهورية ميشال عون في عملية تشكيل الحكومة. وبأنها استغرقت وقت اللقاء كاملاً. لكنه فجّر قنابل أخرى، تحدّث عن عدم وجود رؤية لدى العهد. ذهب إلى التعليم، والكهرباء، والعجز. وكذلك بعد لقائه الرئيس سعد الحريري في بيت الوسط، كانت الأنظار شاخصة إلى ما سيقوله جنبلاط بشأن تطورات عملية التشكيل.

وكأن العناوين التي طرحها جنبلاط، وبدأها بالحديث عن اللاجئين السوريين، رافضاً أن يكون هناك مسؤول يبشّر بانهيار الاقتصاد ويحمّل وزر ذلك للاجئين. وفيما اعتبر أن ما يحصل لا يحصل في أي مكان في العالم، دعا إلى الكف عن المتاجرة بعواطف الناس. هذا العنوان إلى جانب غيره، من العوامل التي تشكّل الحكومة. القصة في رسم خريطة طريق سياسية للحكومة الجديدة. وهذه الخريطة ستبنى وفق ترسيم الحدود وضبط الوضع في البقاع وصولاً إلى تحسين الظروف المعيشية فيه، بتشريع الحشيشية، والتي لم يكن لبنان بحاجة إلى تقرير ماكينزي وصرف أكثر من مليون دولار لإعداده. ووفق حماية المؤسسات وإيجاد حلول لأزمة النفايات.

يفتح كلام جنبلاط عن نية لدى بعض الأطراف في السلطة من خلال شن هجمات على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وهيئة الطيران المدني ورئيس مجلس إدارتها، بأن هؤلاء يسعون إلى تغيير هؤلاء، أو يحاولون الضغط عليهم لتسييرهم كما يريدون. مضمون الكلام خطير. وهذا ما قد يبرر الصراع على وزارات وحقائب وحصص. لربما الإصرار على الأثلاث المعطّلة أو الأكثريات لا يرتبط بعناوين سياسية واستراتيجية، بل يرتبط بكل ما لا يلفت انتباه الناس، من الإسكان إلى مصرف لبنان إلى شركات الطيران. وكأنه يراد من قبل البعض ترجيح كفة فريقهم وحده داخل الحكومة لفرض اتخاذ أي قرار يريدونه في هذا الصدد. لذلك دعا جنبلاط إلى توفير حماية للمؤسسات الناجحة. هذه الحماية تكون في آلية تشكيل الحكومة، ومنع الالتفاف عليها أو على الطائف من خلال فرض وقائع جديد.

الحديث عن ترسيم الحدود ليس صدفة، وهو يرتبط بتحولات إقليمية كبرى تجري في المنطقة، ولبنان سيكون جزءاً منها. أما الحديث عن ملف النفايات والتلوث، فهو يكشف أيضاً أن ثمة نوايا مخبأة لمرحلة ما بعد تشكيل الحكومة. ما قاله جنبلاط أخطر من السياسة وأخطر من كل محاولات الإيحاء بأن ثمة محاور سياسية تنشأ مجدداً في لبنان. الخلاف السياسي زائل، الهدف اقتصادي. وهو مرر الرسالة في كلامه عن طبيعة العلاقات في المناطق الحدودية في البقاع، إذ اعتبر أن المصالح الاقتصادية من خلال التهريب تبقى أكبر من أي خلاف سياسي.

البوصلة عند جنبلاط. في معرض حديثه عن الحكومة قال إن الرئيس المكلف يبذل جهده، ولا بد من تدوير الزوايا. هذه تحتاج إلى وقت. ويكمل الرجل بأنه لم يُطلب تنازلات من أحد قائلاً: "لا أحد طلب منا تنازلات. عندما التقيت الرئيس عون طلب إمكانية تغيير الموازين في ما يتعلّق بالحصة الدرزية، لكن القانون السيء هو الذي جعلني أتكلم باسم الدروز فقط، وقلت له اسمح لي، في الماضي كان الزمن زمن تسويات، اليوم ليس زمن التسويات". هذه إشارة أساسية يقولها جنبلاط بأن لا مهادنة ولا تنازل في المرحلة المقبلة.

سمّى جنبلاط الوزير جبران باسيل بالإسم، وقال: "هو وزير للخارجية، ولو كان وزيراً للخارجية فقط عليه أن يتعاطى بالخارجية وحدها، ولا يتعاطى بالاقتصاد. فليكفّ عن التعاطي بالاقتصاد وتدميره". الإشارة كبيرة هنا، قصد جنبلاط أن باسيل يجمع أشخاصاً عدّة ومهمات عديدة في نفسه، وكأنه يعود بلبنان إلى سنوات سابقة، إلى ما قبل الطائف. وهذا الواقع مرفوض. هنا مربط الفرس. إلى هنا صوّبت بوصلة جنبلاط. الصراع هو على الصلاحيات وتحديد المهمات والأولويات والجهة المخولة بذلك. وهذا تتفق عليه جبهة عريضة خارج الاختلافات السياسية. وهو ما يلتقي عليه كل من جنبلاط والرئيس نبيه بري والحريري وسمير جعجع وسليمان فرنجية وغيرهم. إنها مواجهة تعود بالذاكرة إلى مواجهة عهد إميل لحود، وربما فوقها بمراحل ومحطات.