تختزن حملة النظام السوري الأخيرة على درعا والرغبة في الاستيلاء الكامل عليها قوة رمزية ودلالة بالغة لكل من النظام والمعارضة السورية. فأهل درعا كانوا أول من تحدى سطوة الخوف وكَسَر حاجز الصمت وأطلق احتجاجات الثورة السلمية التي سرعان ما انتشرت بواعثها وشعاراتها في جميع مناطق سوريا.

بالنسبة للنظام السوري تعني استعادة السيطرة على درعا نهاية هذه الثورة، بالقضاء على مهدها الأول ومعقلها الأخير وإحراز نصر مظفر وواثق على معظم الأراضي السورية، بعدما تمكن النظام من إسقاط معاقل المعارضة الواحد تلو الآخر، مقلصاً بالتالي احتمال إسقاطه ومرسخاً نفسه بحكم الثابت السياسي لمستقبل سوريا.

بالنسبة للمعارضة السورية، فإن سقوط درعا، آخر معاقل الثورة السورية، هو سقوط موضوعي للثورة السورية، ونهاية أي حلم بنقل  سوريا من جكم الحزب الواحد وتأليه رأس السلطة إلى مجال الحياة السياسية الحرة وتداول السلطة ودولة الحقوق.

سقوط درعا يعني انتقال النقاش من البحث حول شكل النظام القادم وطبيعته، الذي تبين أن تركيبته الحالية هي الأنسب لكل الدول المعنية بتفاعلات وأحداث الداخل السوري، بمن فيها إسرائيل والولايات المتحدة واغلبية الدول العربية فضلا عن إيران وتركيا وروسيا،  إلى البحث حول حجم حضور وقوة تأثير الدول المتعددة على القرار السياسي السوري القادم. أي انتقل النقاش من الكلام حول المرحلة الإنتقالية وشروط رحيل الأسد، إلى التفاوض أو بالأحرى السجال حول قواعد اللعبة الدولية التي سيلتزم بها النظام السوري وتحديد الدول المرجع الموكل إليها رعاية مصالح هذا النظام.

لسنا هنا في موضع تشخيص أسباب وعوامل إخفاق الثورة السورية، بل سنعمد فقط إلى إظهار جملة دلالات متولدة من التحول الجديد الذي ذكرناه:

أولها: تراجع التأثير العربي بل انعدامه، الخليجي تحديداً، في مستقبل سوريا، بعد القضاء على أكثر التنظيمات المسلحة أو التيارات السياسية التي كانت تمولها دول الخليج العربي وتدعمها، وبعدما اتسم الأداء العربي في إدارة الأزمة السورية بكثير من الإرتجالية والتخبط وقليل من التخطيط والفاعلية.

ثانيها: ظهور الدور الإسرائيلي بصفته فاعلاً ومؤثراً في توزع القوى الدولية وانتشارها في الداخل السوري، بخاصة الوجود الإيراني. وهو حضور انتزعته الآلة العسكرية الإسرائيلية بعدما أثبتت تفوقها التقني وقدرتها التدميرية العالية. ما رسخها قوة دولية شريكة، بشكل مباشر وغير مباشر، في وضع ضوابط لأداء النظام وتحديد نوع القوى الأجنبية داخل المجال السوري ونسب توزيعها.

ثالثها: بداية تزعزع التحالف الإيراني الروسي، بعدما تغيرت الأولوية المشتركة بينهما من حفظ النظام وبقائه، وهي أولوية تحققت بالفعل،  إلى التنافس وربما الصراع على النفوذ وقوة الحضور بينهما في بنية ومسار النظام السوري. هو تنافس وصراع يفرضه التباين بين رؤية كل من الدولتين لتوازنات المنطقة ونظام علاقاتها، والضغط الأمريكي المتكرر على الروس في تقليض نفوذ الإيرانيين في سوريا، فضلا عن النفور الروسي الواضح من السلوك المذهبي الفاقع لإيران والميليشيات التابعة لها في المنطقة.

رابعها: احتفاظ الولايات المتحدة بقوة حضور وقدرة تأثير جدية على مسار الأحداث السورية. بحيث يبدو أن صورة النظام السياسي السوري، ببنيته العسكرية ونسب تمثل مكونات المجتمع السوري فيه وحتى في مسلكياته البوليسية والمخابراتية، ستكون موقعة بإمضاء روسي أمريكي مشترك.  

غني عن الذكر هنا، أن الاتحاد الأوروبي وتركيا فقدا مكانتهما ومرجعيتهما في رسم مستقبل سوريا بعد انشغال التركي بالمحذور الكردي وتخبط الأوروبي بمعضلة اللاجئين السوريين من جهة،  وبعدما فوض الطرفان التركي والأوروبي الأمر السوري إلى الثنائي: الأمريكي-الروسي من جهة أخرى.

خامسها: وهي الأكثر إيلاماً. إذ بنهاية الثورة السورية، تكون المجتمعات العربية قد فشلت في تجربة الانتقال من رابطة الدم والنسب والعصبية بصفتها محددات لانتظامها ومرجعية لسلوكها، إلى تضامنات المجال العام الذي ينتظم وفق مبادئ عقلية كلية وقواعد أخلاقية شاملة لا تقبل التخصيص أو الاستثناء.  وتكون الدولة العربية أيضاً قد فشلت في العبور من دولة الغلبة والقهر والرعاية إلى دولة التمثيل الشفاف للمجتمع وحكم الإرادة العامة التي تتطابق فيها إرادة الفرد (مطلق الفرد) وحريته مع إرادة السلطة وحرية نشاطها.

بفشل الثورة السورية، دخلت سوريا، والعالم العربي معها على الارجح، في حالة إرجاء غير محدد الأمد لإحداث التحولات المطلوبة من واقع متخم بتناقضات بنيوية ومعتقدات القصور والشعور بالذنب وأيديولوجيات القسر والجبر والقدر المحتوم إلى مجال المبادرة الحرة وأطر العلاقات المرنة التي تحرر الطاقات الكامنة وتطلقها إلى أقصى إمكاناتها.