نحو تحالف وطني يحفظ إتفاق الطائف في وجه طموحات العونيين للإستحواذ على السلطة
 
منذ لحظة صدور نتائج الإنتخابات النيابية وإسفارها عن الإنجاز الكبير للقوات اللبنانية وحصادها كتلة من 15 نائباً ، وجد رئيس التيار الوطني الحر وزير الخارجية جبران باسيل نفسه أمام حقيقة فشله في إستقطاب الشارع المسيحي نحو خياراته رغم كل ما إستخدمه من خطابٍ طائفي وعنصري إستفزازي ، لتستقر المعادلة على مناصفةٍ حاول باسيل تخطيها عبر تركيب تحالفات لنفخ تكتله النيابي.
 
خرج باسيل من الحكومة المستقيلة بعد الإستحقاق الإنتخابي مثخناً بأعطاب سلوكه السياسي المثقل بالصراع حول البواخر والمشاريع وجهوده لإخراجها من دائرة الرقابة ، وهو ما أثار عليه وزراء من مختلف التوجهات ، لدرجة التناقض من "حزب الله" إلى القوات اللبنانية...
 
ضربَ باسيل العلاقة مع المكوّن الشيعي بصدامه المكشوف مع الرئيس نبيه بري حتى كاد يشعل حرباً أهلية مصغرة ، متسبباً بأضرار جسيمة لثوابت اللبنانيين في الإستقرار وإحترام الصيغة.
 
ورغم ورقة التفاهم مع "حزب الله" ، إلا أن باسيل إعتمد سياسة التحريض ضد مرشحه في جبيل وأخرجه من المعادلة رغم إصرار أمين عام "حزب الله" شخصياً على إيصاله إلى الندوة البرلمانية ، وسبق ذلك إصطدام بين الحزب وباسيل في ملف البواخر الشهير..
 
إستفزّ باسيل الشارع السنـّي ولم يحترم تحالفه أو تفاهمه مع الرئيس الحريري ، ولم يُراعِ مستلزمات هذا التفاهم ، مستغلاً قرار الحريري بالحفاظ على علاقة إيجابية بالرئيس ميشال عون بعد إتمام التسوية الرئاسية.
 
عمق الإشكالية مع القوات
 
في المقابل ، كانت القوات اللبنانية ترسّخ تجربة وزارية رائدة ، سواء في إدارة الوزارات بعيداً عن الفساد والمحسوبيات ، وقامت نتيجة هذا بالإنفتاح على جميع اللبنانيين ، واضعة خدمات الصحة والشؤون الإجتماعية والإعلام ، في خدمة الجميع دون تصنيفٍ سياسي أو مناطقي ، فحصدت تفاعلاً وطنياً واسع النطاق ، ترجمه اللبنانيون دعماً وتأييد في الإنتخابات النيابية ، لترتفع كتلتها النيابية من 8 إلى 15 نائباً..
 
إنتهت معركة الأحجام المسيحية إلى المناصفة ، ولم يكن مفيداً لباسيل توصيل تكتله النيابي بأعضاء من خارجه ، لرفع عدد وزرائه ، لأن المعادلة المسيحية إستقرت على المناصفة التي أقرّها إتفاق معراب قبل نسفه من قبل باسيل ، لأنه لم يتمكن من إستغلاله في الإنتخابات النيابية كما كان يريد.
 
الإنجاز الأكبر للقوات اللبنانية كان خوضها الإستحقاق النيابي بلغة وطنية جامعة وبالثبات على الشراكة الوطنية ، وأنها إستطاعت أن تأتي بشريحة واسعة من الشارع المسيحي كانت مخدّرة بخطاب باسيل العنصري ، إلى المساحة الوطنية الجامعة ، فحافظت القوات على وشائج الشراكة الوطنية ، فتحوّلت إلى حزب وطني يلقى رئيسه الترحاب والإقبال لدى كل الطامحين لمشروع الدولة.
 
على هذه الخلفية ، أطلق باسيل بعض الأبواق في جريدة "الأخبار" لتشويه صورة وزراء القوات ، فأثاروا زوبعة في فنجان وزارة الصحة ، تتعلق بأدوية السرطان والأمراض المزمنة الأخرى إتضح أنها كذبة كبرى ، ولم يكلف الكاذبون أنفسهم عناء الإعتذار عن نشر إفتراءات ، كما فعل حسن عليق..
 
شنّ باسيل ووزراؤه ونوابه حملة شرسة على وزارة الشؤون الإجتماعية في ملف اللاجئين السوريين ، محاولاً رمي فشله في إدارة الملف عبر التهجم على المفوضية العليا لللاجئين وعلى وزير الشؤون بيار بو عاصي ، ليستقر هذا الملف على مناورة غير مجدية لباسيل وعودة الأمور إلى أساسها المرتبط بحقيقة التهجير الذي تعرّض له السوريون على يد النظام ، وضرورة إرتباط العودة بشكلٍ من أشكال التسوية السياسية في سوريا. 
 
 
وجد تيار المستقبل والرئيس الحريري نفسه أمام باسيل الذي لا يستحي في ضرب صلاحيات رئاسة الوزراء فيحاول الإيحاء بأنه من المقرِّر في التشكيل الحكومي ، وسط صمتٍ مسهّل لتصرفاته من الرئيس عون ، الذي يقول "حلّوها مع جبران" ، الذي يريد أن تكون حصته وحصة الرئيس 11 وزيراً ، فيصبح "الحاكم" في مجلس الوزراء والرئيس عون الحاكم في قصر بعبدا..
 
يدرك الجميع الآن أن الرئيس عون لم يُبرم إتفاق معراب تحقيقاً للشراكة مع القوات اللبنانية ، بل كل مقاصد التسوية كانت محصورة في الوصول إلى الرئاسة وإكراه القوى السياسية على قانون النسبية المشوّه ثم الإستئثار بالحكم والسيطرة على مجلس الوزراء ، وهو ما يترجمه باسيل عملياً.
 
 
 
التسوية الرئاسية: تداعيات كارثية
 
لقد كانت التسوية الرئاسية خطأ جسيماً يدفع اللبنانيون اليوم ثمنه ، وهناك خطر حقيقي يتهدّد إتفاق الطائف ، ويضرب التوازنات وتحديداً رئاسة الوزراء ، من خلال الحديث عن "صلاحيات" نائب رئيس الوزراء والنظام الداخلي لرئاسة الحكومة ، وصولاً إلى فرض تعديلات دستورية تطيح عملياً بالطائف.
 
فالإصرار الباسيلي المستشرس لتوزير النائب طلال أرسلان لا يأتي من الحرص على التوازن ، لأن كتلته إصطناعية بكل معنى الكلمة ، بل لوضع أرسلان في جيب رئيس التيار العوني لضمان التحكم بقرار الحكومة..
 
نحو مراجعة عاجلة.. تحالف للحفاظ على الطائف
 
تحتاج المرحلة الراهنة إلى مراجعة عاجلة من تيار المستقبل ومن القوات اللبنانية ومن رئيس الحزب الإشتراكي وليد جنبلاط ومن الكتائب والرئيس نجيب ميقاتي ، وحتى من تيار المردة وربما من "حزب الله" نفسه ، لأن المعادلة التي يريد جبران باسيل أخذ البلد إليها مدمرة بكل معنى الكلمة.. والجميع بات يدرك الآن أن هذا الإنهيار الحاصل هو في أساسه ناجم عن تسريع السياسات المتهورة المتفلتة من الرقابة الدستورية والقانونية ، وفرض الأمر الواقع على المؤسسات الشرعية ، وهذا سيؤدي حتماً إلى سقوط السقف على الجميع..
 
يتمسك سمير جعجع بالمصالحة المسيحية لأنه مدركٌ لمخاطر الوضع الإقليمي وما قد ينتج عنه من تداعيات ، لكنه في المقابل لا يلقى آذاناً صاغية من الوزير باسيل المنهمك في تنفيذ خطته للإطباق على الحكم.. لكن الحكيم يستطيع التقدم خطوات إلى الأمام لإستيعاب الحلفاء السياديين من جديد وفتح قنوات التعاون معهم.. قبل أن لا يعود ذلك ممكناً بفعل الوقائع السياسية والسلطوية.
 
قدّم الرئيس الحريري الكثير من التنازلات للحفاظ على التسوية الرئاسية ، كونه كان يريد عودة المؤسسات الدستورية للعمل وملء الفراغ الرئاسي ، لكنه في الطريق إلى ذلك أعطى الرئيس عون سطوة التدخل في شؤون رئاسة الحكومة ، وباتت جلسات التعيين تـُعـقد حصراً في قصر بعبدا ، وبتنا نرى الحكومة لا تكاد تجتمع إلا برئاسة عون ، وهذا أفقد رئاسة الحكومة الكثير من الوهج والقدرة على فرض التوازن.
 
هذه التسهيلات التي قدمها الرئيس الحريري لم تعد ذات جدوى ، وآن الأوان لمراجعة هذا المسلك من العلاقة بالرئيس عون من خلال ما أعلنه الرئيس الحريري نفسه ، برفضه فرض أي أعرافٍ جديدة ، ولعلها تكون نقطة العودة بعد تجربة لم يساعد الرئيس عون في إنجاحها ، تحت شعار "الرئيس القوي"!
 
إن التعاون القائم الآن بين رؤساء الحكومات السابقين والرئيس الحريري هو نموذج يستجيب لتحديات المرحلة ، ولا شك أن إنفتاح الرئيس الحريري وإقدام الرئيس نجيب ميقاتي على المبادرة للتضامن مع رئيس الحكومة المكلف ، وتأكيد رفضه المسّ بصلاحياته وتمسكه بالحفاظ على مقام رئاسة الوزراء يسهم في تحصين الساحة السنية ، بالتوازي مع مواكبة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان. 
 
لا يستطيع أحدٌ تحمّل هذا القدر من الإستفراد بالسلطة ، لأنه سيقضي على لبنان بصيغته ومميزاته وأهمها الحرية السياسية والقضاء المستقل وصيغة العيش المشترك.. والواجب يدعو إلى تحرّك عاجل لإقامة تحالف الحفاظ على إتفاق الطائف قبل أن ينزلق البلد إلى فوضى ستؤدي حكماً إلى تشظيه وإنفراط عقد وحدته الوطنية.