لا يخافون من حروب إقليمية تقف على عتبة الوطن لأنّ صالوناتهم محصّنة بالطائفية، ولا يخافون من أزمات ماليّة تزحف مِثل الجراد على اقتصادنا لأنّهم لم يتركوا لا أخضر ولا يابس، ولا يخافون من مجارير تُنكّه بحرَنا بالبراز طالما لن تلوّث مسابحَهم الزرقاء، ولا يخافون من أكوام نفايات تأكل الشارع اللبناني لأنّها لن تغيّر طعمَ السلمون الاسكتلندي في الباغيت الفرنسي بيدِهم، ولا يخافون من جوعنا وعوزِنا وفقرنا وإحباطِنا وفواتيرنا وكمبيالاتنا وهمومِنا وأمراضنا وثورتِنا وانتفاضتنا... لا شيء يُخيفهم في هذا البلد، لا شيء أبداً...

لكن ما يُرعبهم هو صوت صفّارة إنذار سيارة إسعاف يعكّر مزاجَ دواليب مواكبهم السوداء وهي تتغندر على الزفت المصاب باللعيان من رائحة الكاوتشوك المتعجرف.

إنتشَر أمس فيديو قصير على مواقع التواصل الاجتماعي يَظهر فيه مسعف يترجّل من سيارة إسعاف في زحمة السير ليطلبَ من رجل الأمن أن يفتح الطريق حتى يتمكّنوا من إيصال المريض إلى الطوارئ، لكن بلا جدوى، لأنّ رجل الأمن أبقى الطريقَ مقفَلاً إلى حين مرور الموكب الذي لم يُعرَف صاحبُه، ولا يهمّ أصلاً معرفة من يستقلّ هذه السيارات ولا من طلبَ إقفالَ الطريق أصلاً، لأنّ كلّ ما يهمّ أن نعرفه هو مدى أهميتِنا وأهمّية حياتنا وآلامِنا وحاجاتنا بالنسبة إلى بعض النافذين في هذه الدولة، والمستعدّين أن يضحّوا بأرواحنا ولا أن تسقط صفوةُ السيغار على بناطيلهم الحريرية.

يُقال أنّ الجهاز الأمني تمكّنَ من اعتراض المكالمات بين سيارة الإسعاف والمستشفى، واكتشف أنّ المريض المنقول يعاني من التهاب حادّ في «الزايدة»، وهي مهدّدة بالانفجار في أيّ لحظة، ولهذا السبب أمرَ بإقفال الطريق تماماً حتى لا يتعرّض «المفدّى» إلى انفجار من أيّ نوعٍ كان، وحتى لو كان انفجار في شريان العين اليسرى.

لكن هل انتبَه صاحب هذا الموكب ومَن فيه أنّه، ولا سمحَ الله ألف مرّة، لو حصَل إنفجار في أيّ لحظة وفي أيّ منطقة من لبنان، فإنّ أوّل من سيتمنّون وصوله إلى مكان الكارثة هم رجال الإسعاف نفسُهم الذين تمّ إذلالهم بلحظةِ أمان، وأنّهم سيتضرّعون إلى الله في ساعتها أن لا يكون هناك زحمة سير في المنطقة، ولا أن يكون هناك موكبٌ لأحد النافذين الآخرين يمرّ في المدينة خوفاً من أن يقفلَ الطريق ويؤخّرَ وصول المسعفين إليهم، لأنّ أكثر ما يخافه المصاب هو أن يموت متأثّراً بجروحه... والشعب ساكت عن كلّ شيء، ولا يطلب سوى أن يكون متساوياً بالجروح والأمراض، لا أكثر ولا أقلّ.

ليس كلّ من يَركب موكباً أمنياً يخسر مشاعرَه الإنسانية، لكن البعض يعتقد أنّ زجاج سيارته الداكن ستارةٌ مخملية حمراء وكلّ ما يحصل خلفها مجرّد مسرحية ستنتهي قريباً، لكنّ الألم على المورفين يأتيه وقت ويصحو والجرح غير المعالَج سيلتهب...

وإذا كان هناك أحدٌ في البلد يخاف من سيارة إسعاف، فليَطمئن، لأنّ الذي فيها ليس أكثرَ مِن مريض مصاب بارتفاع بضغط الدم بسبب ضغوط الحياة المفروضة عليه من وفرةِ الفساد، أو بذبحة قلبية من فاتورة اشتراك دونكيشوتية، أو إغماء وإسهال وتسمُّم من خيرات البلد وروائحِه العطرة وهوائه العليل... أو ربّما هذه لم تكن سوى سيارة إسعاف بلا مكيّف هواء تدور على المستشفيات علّها تجد من يستقبل مصاباً بنطلونُه مثقوب، ليس من صفوةِ سيغار وإنّما من الدفع والشحار.