لا الطمأنة التي يعتمدها المسؤولون في هذه المرحلة تعني ان الوضع المالي والاقتصادي في خير، ولا التهويل يعني ان الامور وصلت الى مرحلة اليأس. لكن الواقعية تقضي بالاعتراف بأن البلد يمر في مرحلة دقيقة، والمشكلة في مكمنها الحقيقي سياسية.
 

يطيب للبعض أن يشير دائما الى المرحلة الذهبية التي عرفها لبنان في السنوات الثلاث 2009، 2010 و2011. وقد وصل معدل النمو السنوي في هذه الحقبة الى حوالي 9 في المئة، وهي نسبة ممتازة تستطيع ان تخلق نقلة في اقتصاد اي دولة. وقبل التطرّق الى أرقام تلك الحقبة، لا بد من الاشارة الى ان مجموعة اسباب ومعطيات اجتمعت لاعطاء تلك النتيجة الايجابية في النمو، أهمها على الاطلاق يتعلق بالوضع السياسي الداخلي والاقليمي. في مطلع تلك الحقبة، حصل التوافق السعودي-السوري، أوما يعرف بالـ«س-س». ودخل سعد الحريري الى السراي، متأبطا مشروع المصالحة مع دمشق استنادا الى التفاهم الاقليمي.

هذا الوضع السياسي هو المسؤول الاول عن النهضة السريعة التي شهدها الوضع المالي والاقتصادي في البلد. وانعكس ارتفاع منسوب الامل والتفاؤل على حجم الاستثمارات الداخلية والخارجية، وعلى حركة السياحة الخليجية، وعلى تدفّق الاموال الى لبنان.

في دراسة ارقام تلك السنوات التي شكّلت علامة فارقة في الوضع المالي والاقتصادي، يمكن استنباط حقائق تتعلق بفرص الانقاذ الاقتصادي القائمة اليوم.

في العام 2009، وصل حجم الدين العام الى حوالي 51 مليار دولار، أي ما نسبته 144% من الناتج المحلي الذي بلغ حوالي 41 مليار دولار.

في العام 2010، ارتفع حجم الدين العام الى حوالي 52,5 مليار دولار. وأصبحت نسبة الدين على الناتج المحلي 132%. وارتفع حجم الناتج الى حوالي 44 مليار دولار.

في العام 2011، وصل الدين الى حوالي 54 مليار دولار، وصار يشكل نسبة 134% من الناتج المحلي.

في هذه الارقام، يمكن ايراد ملاحظتين اساسيتين:

اولا- ان معدل نسبة ارتفاع الدين العام في السنوات الثلاث وصل الى 1,4%. (نسبة نمو الدين بين 2016 و2017 وصلت الى 8%). هذا النمو البطيء، لا يعود الى تباطؤ في نمو الانفاق، بل الى ارتفاع الايرادات المرتبطة بنمو حجم الاقتصاد.

ثانيا – ان نسبة نمو الناتج المحلي وصلت الى 9%، وهي نسبة تسمح بانخفاض سريع في حجم الدين نسبة الى الناتج.

لو افترضنا ان هذا الوضع استمر حتى 2017، ماذا كان حصل؟

في لغة الارقام، كان حجم الدين العام سيرتفع في 6 سنوات، الى حوالي 67 مليار دولار. (الدين حاليا حوالي 82 مليار دولار). وكان الناتج المحلي سيصل الى حوالي 72 مليار دولار. (الناتج حاليا حوالي 55 مليار دولار). أي ان نسبة الدين العام على الناتج ستكون حوالي 85%. (النسبة الحالية 150%). وهذا الوضع مريح مالياً واقتصادياً وفق كل المعايير العالمية.

هذه العودة الى ارقام السنوات المميزة تهدف الى تسليط الضوء على ان احتمالات النجاة من الأزمة الحالية ترتبط حصرا بالوضع السياسي بامتداداته الداخلية والخارجية. وتبين ارقام نمو الدين والناتج المحلي بين 2012 و2017 مدى الخطر الذي يشكله الانتقال من اجواء التفاهم السياسي الى اجواء التصادّم. وقد أضيقت الى هذا المناخ السلبي تداعيات الأزمة السورية وانعكاساتها على لبنان. وظهر ذلك بوضوح في الارقام. وفي حين كان الدين ينمو بمعدل 1,4% سنويا، قفز بين 2011 و2012 الى 6,5%. ووصل حاليا الى حوالي 8,5%. هذه النسبة لم يعد الاقتصاد قادرا على تحمّل نتائجها لفترة طويلة.
ولتوضيح الصورة اكثر، يمكن مقارنة هذه الارقام الثلاثة:

في ثلاث سنوات (2009-2011) ارتفع الدين حوالي 3 مليارات دولار فقط. بعد مرور 4 سنوات، وخلال ثلاث سنوات اخرى (2015-2017) ارتفع الدين حوالي 10,3 مليار دولار. واذا احتسبنا نسبة ارتفاع الدين المقدّرة بعد اربع سنوات اخرى، (في حال استمر الوضع كما هو اليوم) اي بين 2021 و2023 سوف يتبين انها ستصل الى حوالي 26 مليار دولار، ومجموع الدين العام سيقترب من 140 مليار دولار.

مؤشرات التعقيدات التي يعاني منها الوضع المالي اليوم عديدة، ليس أقلها اسعار الفوائد التي بدأت ترتفع الى مستويات مقلقة، وهي تشير الى عطش لجذب اموال بالعملات الاجنبية. لكن ما يطمئن في هذا الوضع، ان قدرات القطاع المصرفي، المستندة الى استمرار تدفق الاموال واستمرار نمو حجم الودائع لا تزال قائمة. وهي تشكل نوعا من الضمانة المؤقتة للوضع المالي الحساس، وهذه القدرات هي التي تدفع مؤسسات التصنيف العالمية الى منح المصارف اللبنانية صفة الاستقرار، وتعطي نوعا من الطمأنينة يحتاجها السوق اللبناني في هذه الحقبة، بانتظار ان يتغيّر المشهد.

وهنا يمكن القول، اذا توفرت معطيات استقرار سياسي داخلي واقليمي، واذا بدأ تنفيذ مقررات الاصلاحات، ستكون طريق التعافي سريعة، تماما كما كانت درب التراجع منذ 2012 حتى اليوم. أما اذا لم تتوفر معطيات الوفاق السياسي، فان البدء في تنفيذ الاصلاحات، سيكون البديل الذي يساعد على مزيد من الصمود، بانتظار التعافي، لكنه لن يكون لوحده كافيا للعودة الى طريق النمو السريع. والواقعية تحتّم الاشارة أيضاً، الى ان الاصلاحات تصبح ضرورية اكثر في حال استمر المشهد السياسي على حاله، (المقصود ليس مجرد تأليف حكومة)، لأنها تكون قضية حياة أو موت، في حين ان الاستقرار السياسي (كما حصل في الماضي) يستطيع أن يغطّي عورات الفساد، ويمنح الفاسدين فرصة الاستمرار في نهب المال العام، من دون ان ينهار الاقتصاد.