تتمحور الأفكار في هذا النص حول تجربتَي الحراك الإجتماعيّ من أجل النفايات والضرائب. وقد جرى اختيار التجربتَين لاعتبارات ثلاثة على الأقل. أولاً، كون التجربتين شهدتا تعبئة شعبية واسعة حول مطالب إجتماعيّة وبيئية. ثانيًا، لأن جموعات شاركت في الانتخابات النيابيّة تحت اسم "المجتمع المدني"، انبثقت عن التجربتَين وغيرهما. ثالثًا، لأننا في أمس الحاجة الى أبحاث ودراسات ميدانيّة اذا امكن، تساعد الجماعات الضاغطة في الدفاع عن حقوق المواطنين والمواطنات، ولا سيما في ظل القصور على مستوى الفعاليّة، الذي تميّز به الحراكان المذكوران، وفي مرحلة تتناسل فيها المشكلات الإجتماعيّة والبيئيّة وتواجه البلاد خطرًا حقيقيًّا في الافلاس.

 

الهاجس "السياسي"

يصعب على الباحث تلمّس إستراتيجيا للضغط في حراكَي النفايات والضرائب (2017-2015).

المطالب غير واضحة، إلاّ من حيث رفض ما طرحته السلطة؛ وسائل الضغط المستخدمة تعبوية أكثر منها ضاغطة على صانعي القرار؛ غياب شبه كامل لهمّ المفاوضة مع السلطات.

يلاحظ في المقابل بذل مجهودات كبيرة في اتجاه تسجيل "نقاط" سياسيّة: احتجاز وزير البيئة، استماتة المتظاهرين لتجاوز الحواجز الحديديّة وللوصول الى مجلس النواب وغير ذلك... إضافةً الى السعي الدؤوب للتوصّل الى "برنامج سياسي" يتجاوز المطالب المحددة أساسًا للحراك.

يتراواح "التغيير السياسي"، كما بدا من أدبيات قيادات الحراك الذين تحمّسوا للإنخراط في الترشيح او في دعم الترشيح للانتخابات النيابيّة، بين "خرق" لوائح السلطة وبناء "الدولة المدنيّة".

وإذا كان تواضع الهدف بخرق اللوائح من جهة، والطموح الكبير ببناء الدولة المدنيّة من جهة ثانية، يعكس تناقضًا في النظرة الى الذات والإمكانات، فإن المبدأ بالنسبة إلى الذين ترشّحوا على لوائح ما سمّي بـ"المجتمع المدني"، هو في نقل النشاط من "الشارع الى البرلمان"، حيث ان "الإنتخابات هي إستمرار طبيعي للنضال الذي بدأ سنة 2015 مع حراك النفايات" (زينة الحلو، هل الإنتخابات اللبنانيّة للعام 2018 فرصة ظهور فاعلين سياسيين جدد؟).

الأرجح ان قيادات حراكَي النفايات والضرائب، لا ينظرون الى الحراكَين كجماعات ضغط لتحقيق مطالب معيّنة، بل كمجموعات معارضة سياسيّة.

يوفّق نهج الجماعات الضاغطة عادةً بين الضغط والمفاوضة، واضعًا نصب عينيه تحقيق المطالب، في حين ان نهج المعارضة السياسيّة يتوسّل بالمطالب والتحركات الضاغطة لتغيير الحكومة أو في أسوأ الحالات لإظهار السلطة السياسيّة في موقع المخطئ أو العاجز.

الجماعات الضاغطة تنجح، إذا بقيت الحكومة وأجبرت على تحقيق المطالب. المعارضة السياسيّة تنجح، إذا وقفت الحكومة عاجزة عن تحقيق المطالب وأجبرت على الرحيل. الجماعات الضاغطة واقعيّة في مطالبتها لأن ما تقوله يجب ان تتفاوض عليه. في حين ان المعارضة السياسيّة تميل عادة الى تضخيم الأمور لأن ما تقوله لن تتفاوض عليه، فهو في الأساس غير موجّه الى السلطة السياسيّة بقدر ما هو موجّه الى الرأي العام. الجماعات الضاغطة تحرص على إستمرار العلاقة التفاوضيّة مع السلطة التقريريّة، كوسيلة أخيرة في نهاية الأمر لتحقيق المطالب. المعارضة السياسيّة لا تعتبر التفاوض مع السلطة وسيلتها للوصول الى تسويات، بل تعوّل على التصويت الديموقراطي خلال الإنتخابات النيابيّة لحسم الخلافات لصالحها أو على حسابها.

 

اقتراح "نموذج مثالي" مشترك

اني اقترح هنا "نموذجا مثاليا" (Type ideal) لكل من الجماعات الضاغطة والمعارضة السياسيّة من خارج المؤسسات. ويمكن بالطبع للممارسة الواقعيّة ان تستعير خصائصها من النموذجين. فقد يكون "التسييس" خيارًا إستراتيجيًّا للجماعات الضاغطة يهدف على المدى البعيد الى تغيير في النظام الإقتصادي والسياسي. لكنّه حتى في هذه الحال يجري وضع إستراتيجيا توفّق بين أهميّة تحقيق مكاسب مرحليّة على المدى القصير، والعمل على إحداث تغييرات إقتصاديّة سياسيّة أكثر جذريّة على المدى البعيد. وهذا ما افتقرت إليه تجربة حراكَي النفايات والضرائب، التي غاب عنها البعد الإستراتيجي والتخطيط المرحلي في آن واحد.

تصريحات المرشحين والمرشحات من "المجتمع المدني" عكست بعض الثقة بإمكان التغيير من داخل مجلس النواب بالمقارنة مع إمكان التغيير من خلال الضغط في الشارع، على رغم ان الانتقادات لقانون الانتخاب، كانت تشير بوضوح إلى ان حجم تمثيلهم سيكون ضئيلاً. وهذا ما أكّدته نتائج الإنتخابات.

ما جاء في الوثيقة السياسيّة لـ"تحالف وطني" الذي شارك في الانتخابات، ذهب أبعد من ذلك من حيث الثقة بإمكان التغيير من داخل مجلس النواب: "من خلال إيماننا بواجبنا وقدرتنا كمواطنات ومواطنين في وقف المسار الانحداري للدولة في لبنان وفي قيادة عملية التغيير وفي ابتكار أدوات فعّالة تحوّل النقمة الشعبيّة من حال سلبيّة الى قوّة إيجابيّة، نرى أن الإنتخابات النيابيّة هي محطة للتغيير السلمي الديموقراطي إنطلاقًا من اقتناعنا بقدرتنا على تمثيل حاجات الشعب اللبناني وقيمه ومبادئه والضغط لتطوير وتصحيح الاداء والتوجّه السياسي عامةً وبالأخص من خلال التشريع والمحاسبة في مجلس النواب" (تحالف وطني، الرؤية السياسيّة، كانون الأول 2017).

لافتٌ في هذا المقطع إعتبار "التحالف" النقمةَ الشعبية، أي عمليًّا التحركات الضاغطة السابقة، "حالة سلبيّة". وهو في حدّ ذاته يعكس نظرة دونيّة إلى الجماعات الضاغطة بالمقارنة مع العمل السياسي المؤسساتي.

الغائب على ما يبدو من "وعي" مرشّحي "المجتمع المدني" القادمين من "الحراك" الشعبي، هو الفرق والعلاقة بين الضغط في الشارع والعمل في إطار مجلس النواب. والأهم من ذلك هو مدى تأثير الخلط بين الاثنين في فعّالية الاثنين معًا.

فإذا سلّمنا بإمكان التأثير من داخل البرلمان، وهذا ما هو مشكوك فيه على مستوى حجم التمثيل، يبقى السؤال حول مصير جماعات الضغط من جهة، وكيفيّة التوفيق بين الاثنين من جهة ثانية. فنحن لسنا أمام "مجتمع مدني" منظّم في جماعات ضاغطة قويّة لا تتأثّر بانخراط قياداتها في الصراعات السياسيّة. بل نحن في مرحلة بناء جماعات ضاغطة تكافح من أجل بناء وحدتها وتجاوز الانقسامات السياسيّة في اتجاه الضغط من أجل حقوق مواطنيّة. لذلك إن أخطار الإنخراط في الصراعات السياسيّة على بناء الجماعات الضاغطة كبيرة، حتى لو تمّ إنخراط قيادة الجماعات الضاغطة من موقع مستقل.

السؤال الإستراتيجي في هذه المرحلة هو: ما هي الأولوية، بناء قوّة الجماعات الضاغطة، أي عمليًّا بناء "المجتمع المدني" الإفتراضي، أو المراهنة على التأثير من داخل المؤسسات السياسيّة، في ظل التوقّعات شبه الأكيدة، ان هذه المراهنة من حيث الحجم التمثيلي غير واقعيّة على الأطلاق؟

 

الإغتراب السياسي وإشكاليّة بناء "الدولة المدنية"

الطرح السياسي الأبرز لدى مجموعات ما سمّي بـ"المجتمع المدني"، هو بناء الدولة المدنية.

بحسب تعريف "تحالف وطني"، تكون الدولة مدنية عندما "تكون العلاقات بين الدولة والافراد علاقة مباشرة تحدّدها القوانين العامة من دون وساطات (طائفية او غيرها) حيث يعيش فيها الجميع متساوين من دون إقصاء اي فرد او مجموعات بناء على معتقداتهم".

يشوب مفهوم "الدولة المدنيّة" الكثير من الغموض، كما تدّل عليه عموميّة التعريف أعلاه. البعض يرى فيه تمويهًا لمفهوم العلمانيّة أو العلمنة، والبعض الآخر يختصره بإلغاء الطائفيّة السياسيّة.

ما يجمع التفسيرات المتعدّدة لمفهوم "الدولة المدنيّة"، هو ان هذه الدولة هي البديل المطروح عن "النظام السياسي الطائفي" الذي يشكو منه المجتمع.

عندما طرحت الحركة الوطنيّة مفهوم العلمنة في برنامجها المرحلي، طرحته كحل لمشكلة إسمها "النظام السياسي الطائفي".

بدا توصيف المشكلة صحيحًا، لكنّه اتضح بالممارسة ان الحل المطروح غير واقعي، ولا سيما ان القوى التي نادت بهذا الحل وسعت إلى تحقيقه ولو بالقوة، هي سوسيولوجيًّا ذات تركيبة طائفيّة. مما دفع المفكر السوري ياسين الحافظ الى تشبيه الأمر في حينه، كمَن يريد ان يضع "غطاء" علمانيًّا على "طنجرة طائفيّة".

هذا الاستسهال لإلغاء النظام الطائفي، من خلال طرح إلغاء طائفيّة النظام السياسي، جرى تبريره "نظريًّا" من خلال تشبيه النظام الطائفي بالنظام الرأسمالي، عبر مقولة "الطائفة - الطبقة".

لقد جرى القفز "فكريًّا" وميكانيكيًّا من تحديد المشكلة الى اقتراح الحل، من دون الأخذ في الإعتبار التركيبة المجتعميّة والقوى المؤهّلة لإحداث التغيير في اتجاه علماني. مع ان التجارب العالميّة في المجتمعات المتعدّدة الطوائف أو الاثنيات، دلّت على ان الإنتقال الى أنظمة علمانيّة تمّ عبر طرق معقّدة: إما القضاء على الاقليات وعلمنة المجتمع المتجانس، وإما إقرار أنظمة فيديراليّة وعلمنة المناطق المفدرلة. بعض هذه التعقيدات وغيرها، جرى أخذها في الاعتبار في مقاربة إصلاحيّة لـ"حركة التجدّد الديموقراطي" للوصول الى "الدولة المدنيّة" (خريطة طريق الى الدولة المدنيّة، ادارة التعدد الطائفي داخل نظام ديموقراطي، 2017.) .

لا تقتصر الإشكاليّة اليوم فقط على تصوّر الحل بل على توصيف المشكلة. فعلى رغم كل التحولات التي حصلت منذ إندلاع الحرب سنة 1975 لا يزال النظام القائم يوصف بـ"النظام السياسي الطائفي". في حين انه على المستوى العملي والممارسة الفعليّة، أصبح "النظام" نظامًا فرعيًّا بحدود مفتوحة في إطار نظام إقليمي مركزه إيران مع تأثيرات إقليميّة ودوليّة أخرى، ويشمل العراق وسوريا ولبنان. والنظام هذا، لم يعد بآليات عمله وديناميّته، نظامًا طائفيًّا بل صار مذهبيًّا، تتفاعل المذاهب فيه على وقع تفاعلها في الإطار الإقليمي الأوسع. كما ان هذا التفاعل لا تتحكّم فيه القواعد السياسيّة فحسب، بل موازين القوى المبنيّة على العنف.

في هذا المعنى، وبالقليل من المبالغة، لم يعد هذا "النظام السياسيّ الطائفيّ"، لا نظامًا ولا سياسيًّا ولا طائفيًّا. وأصبحت "المشكلة" التي يريد "المجتمع المدني" معالجتها، بحاجة الى إعادة توصيف، ومعها بالطبع "الحل" المقترح لمعالجتها.