عندما خرج أطفال درعا مطالبين بالحرية والعدالة والمساواة، قبل سبع سنوات، مردّدين بحناجرهم الطاهرة "مالنا غيرك يا الله"، لم يكن الكثيرون منّا يدركون أنّ الثورة السورية سوف تمر بمراحل معقّدة، ومؤلمة، خلال السنوات المقبلة. تلك الأزمة التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها أكبر كارثة إنسانية على وجه الأرض، وذلك عندما تهاوت كل المعايير والقيم الإنسانية والأخلاقية، وسقطت، وفشلت معها ما طرحته المنظمات الدولية والإقليمية من حلول ومقترحات. 

لقد كشفت الثورة السورية الوجه الحقيقيّ لمنظمات المجتمع المدني، بل كشفت أيضاً وجه الدول، التي تنادي بالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، سواء من كانوا مع النظام السوري منذ الوهلة الأولى، أو على الجانب الآخر، الذين تحوّل معظمهم، أو جلّهم، لمحاربة "الإرهاب". أوَ ليس من شرّد نصف الشعب، وقتل أكثر من مليون شخص، وسجن وعذّب عدداً كبيراً من الأبرياء، من ضمنهم؟

لو كان النظامان الدولي والإقليمي جادّين في إسقاط نظام بشار الأسد، أو تغييره، لفعلا ذلك عند بداية الثورة، عندما كانت كل الظروف مهيّأة آنذاك. فقد كان الثوار يسيطرون على 70 في المئة من أراضي الدولة السورية، قبل تدخّل روسيا وإيران، وميليشيات الأخيرة، وحتى "داعش" ، لكن كلّ من تدخّل في هذه الثورة، كان تدخله بهدف إطالة الأزمة لحسابات شخصية، أو لخصومة مع إيران. فقد كانت كلّ التدخلات بعيدة كل البعد من تغيير النظام، وذلك عن طريق التفجير السياسي عبر "المعارضة الزائفة"، أو التفجير العسكري عبر "داعش".

إنّ ما يسوّق حالياً يتلخّص في إعادة اللاجئين، الذين يبلغ عددهم نحو 8 ملايين لاجئ من الغرب، ودول الجوار، وعن إعادة مقعد سوريا في الجامعة العربية، وإعمار سوريا، الذي تبلغ كلفته "300 مليار دولار"، ومع إقامة معرض دمشق الدولي في العام 2017، الذي كان مخصصاً لإعادة إعمار سوريا، وسن "قانون 10"، الذي ينص على "إمهال اللاجئ في الخارج 30 يوماً لإثبات ملكيته العقارات، وفي حال عدم استطاعته، سوف تُسحب ملكيته للعقار"، وهذه كلها ادّعاءات أو محاولات لإحياء النظام من جديد، إضافة إلى محاولة إقامة النظام علاقات ديبلوماسية مع "إقليمي أبخازيا و أوسيتيا الجنوبية"، والاعتراف بانفصالهما عن جورجيا وإلحاقهما بروسيا، أو ترؤوسه مؤتمر الأمم المتحدة لنزع السلاح لمساعدته على الخروج من عزلتيه الدولية والإقليمية.

قد لا تكون مؤتمرات أستانا، أو سوتشي، أو جنيف، أو حتى المعارضة الشكلية للنظام، كافية لبقاء بشار ونظامه في السلطة. إننا عندما نشاهد الخريطة السورية في الوقت الحالي، ندرك أن سوريا تحولت إلى مناطق نفوذ وصراع للدول الإقليمية والدولية، لا للدول العربية، ولا حتى لإيران، التي أحضرت معظم الميليشيات الشيعية من جميع أنحاء العالم، ولها ذلك التأثير القوي في الساحة السورية. فشرق نهر الفرات أصبح تحت النفوذ الأميركي، أما شمال غرب الفرات وإدلب وعفرين ومنبج والباب وجرابلس، فقد أصبح تحت سيطرة الدولة التركية، بينما أصبحت مناطق غرب سوريا مع النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، فيما بات الجنوب السوري تحت النفوذ الأردني، وبعض فصائل المعارضة المسلحة، وأميركا.

إنّ من يعتقد أن الثورة السورية قد انتهت، باستعادة النظام وحلفائه مناطق من هنا وهناك، فقد يكون مخطئاً. وإذا أردنا تقييم الثورة السورية، بعد مرور 7 سنوات في ميزان الربح والخسارة، فإننا نجد أنّ "أميركا وتركيا وروسيا" هي الرابح الأكبر، أما "إيران والدول الأوروبية والنظام والمعارضة والدول العربية"، فهم الخاسر الأكبر على الساحة السورية.

فأميركا، أنشأت "13 قاعدة عسكرية" في سوريا، تمتدّ من الحدود العراقية جنوباً حتى الحدود التركية شمالاً، وتسيطر على مناطق الغاز والنفط، أمّا روسيا، المسيطرة على القرار السياسي والعسكري والاقتصادي، التي تمتلك "تسع قواعد عسكرية"، ومع توسّع قاعدتي حميميم وطرطوس على البحر المتوسط، فستكون لاعباً أساسياً في سوق الغاز العالمي، وخاصة بعد الاكتشافات الكبيرة في البحر المتوسط، ومع الاتفاقيات الأخيرة المبرمة بين سوريا ونائب رئيس الوزراء الروسي، في شأن الغاز والنفط. وقد أصبحت روسيا لاعباً مهماً أيضاً في منطقة الشرق الأوسط بعد عزلتها الدولية، فيما تركيا الضامنة والداعمة للمعارضة السورية السياسية "الائتلاف السوري"، والمعارضة المسلحة "الجيش السوري الحر"، في أستانا أو سوتشي أو جنيف، أدّت دوراً في اتفاق مناطق خفض التصعيد، ورفضت وجود (ب ي د) على حدودها، الذي يعدّ جزءاً من منظومة حزب العمال الكردستاني، المناهض لتركيا، عندما تدخّل جيشها في الشمال السوري، وذلك لمنع إقامة دولة كردية تمتد من العراق حتى البحر المتوسط، محاصراً تركيا من جهة الجنوب، الذي قد يفصلها عن التواصل البري مع العالم العربي.

أما الخاسرون، فكثر، وفي مقدمتهم إيران، التي كانت لها حسابات مختلفة في بداية تدخلها في الملف السوري، وكانت تريد الهيمنة على الحدود السورية الجنوبية. فقد أدركت إيران أن إسرائيل لن تسمح ببقائها على حدودها في محافظة القنيطرة، وغرب دمشق وجنوبها، لسهولة التواصل الجغرافي مع جنوب لبنان، حيث نفوذ حزب الله، وكذلك الأردن ودول الخليج، التي ترفض الوجود الإيراني على حدودها للمحافظة على أمنها القومي.

ربما تقدّم إيران مستقبلاً تنازلات في الملف السوري، وخصوصاً بعد انسحاب أميركا من الاتفاق النووي، والعقوبات الاقتصادية وخروج الاستثمارات الأجنبية، وموجة الاحتجاجات والتنسيق الأمني بين روسيا وأميركا وإسرائيل في سوريا.

ومن الخاسرين أيضاً الدول العربية، التي ليس لها تأثير يذكر، ما عدا الملف الإنسانيّ، من استقبال اللاجئين السوريين، وكذلك الدول الأوروبية التي تعاني موجة نزوح غير مسبوقة، ومع صعود "الأحزاب الشعبوية"، التي تنادي بطرد المهاجرين. أما النظام، فيدرك جيداً أن سوريا لن تكون كما كانت قبل العام 2011، بعد التغيير الديموغرافي والقلق في أوساط بعض الأقليات المذهبية والدينية. وكذلك المعارضة (السياسية والعسكرية)، التي أصبحت لا تملك الكثير من الأوراق للتفاوض، وأصبح قرارها السياسي والعسكري مرتبطاً ومرهوناً بدول إقليمية ودولية.

فبعد مناطق خفض التصعيد التي اتفق عليها في مؤتمر أستانا بين "تركيا وإيران وروسيا"، والبدء بصياغة دستور جديد، وانتخابات، قد يشارك فيها بشار الأسد خلال فترة انتقالية محددة، تكون سوريا قد تحولت إلى دولة اتحادية (فيدرالية)، وستتمتع هذه المناطق أو الأقاليم بصلاحيات واسعة، ويحدد الدستورالجديد العلاقة بين هذه الأقاليم والسلطة المركزية.

إذاً الثورة السورية التي تحولت إلى أزمة عالمية، ماضية إلى تسوية سياسية ترضي جميع الأطراف الإقليميين والدوليين، وإن لم يتحقق ذلك، فلربما نشهد نشوب حرب عالمية بين جميع الدول المتصارعة في سوريا.

 

(خالد الربيع)