وضَع الافتراق العميق في الرؤى والأهداف والمصالح بين طبّاخي الحكومة، المثلَ الشعبي القائل «إشتدّي أزمة تنفرجي»، على الرفّ، وحلَّ مكانه مثلٌ بديل يُعبّر عن مدى السلبية التي تحيط بأزمة التأليف، يقول: إشتدّي أزمة تتعقّدي أكثر»!
 

الواقع الحكومي معقّد ويُنذر بالمزيد، والمناخ التشاؤمي العام ينبض بجملةٍ واحدة: ولادة الحكومة متأخّرة، ربّما لشهر، وربّما لشهرين وربّما لأشهر».
ما الذي يمنع ولادة الحكومة؟


ثمّة من يرمي الكرة إلى الخارج، ويربط التأليف بنتائج لقاء ترامب-بوتين، وثمّة من يتّهم جهة خارجية بممارسة ضغوطات لعدم تشكيل حكومة يثمّر فيها «حزب الله» فوزَه في الانتخابات.


قد تكون هاتان الفرضيتان صحيحتين، ولكلّ منهما جمهور عريض يصدّقها، إلّا أنّ الصورة تُرى من الداخل في الصراع المحتدم داخل ما يمكن تسميتُه «مثلّث التعطيل»، الذي يتقاسمه فريق رئيس الجمهورية يتقدّمه «التيار الوطني الحر»، الرئيس المكلّف سعد الحريري، و»القوات اللبنانية».


هذا المثلّث يَحكمه منطق «عَطِّلي لعَطِّلك»، في ظلّ النظرة المتعارضة بين أضلاعه للتأليف، وفي ظلّ الجمرِ الحارق للعلاقات بين أطرافه، وفي ظلّ النرجسية السياسية التي عزّزت منطقَ الجشَع ومحاولة الاستئثار، وأظهَرت أنّ كلّ ضلع يريد «حكومته هو»، قبل أن تكون حكومة البلد، متسلّحاً بما يَعتبرها أسباباً جوهرية يرفض التراجع عنها أو التنازل عن بعض منها أمام الضلع الآخر.


- فالتيار الوطني الحر، ظهر من جهةٍ مستميتاً لتحجيم «القوات اللبنانية» وتخفيض سقفِ شراكتها في الحكومة، ومِن جهة ثانية متّهَماً بمحاولة التحكّم بها، عبر مطالبته بحصّة وزارية بين 7 و8 وزراء تضاف إلى الحصّة الثلاثية الممنوحة لرئيس الجمهورية، ما يعني أنّه في حال حصوله عليها سيصل إلى الثلث المعطل (11 وزيراً) ويزيد. وثمّة من يسأل «على أساس أيّ معيار يجري طلب هذه الحصّة؟


هذه الحصة في رأي «المُتَّهِمين» يراد منها أن تشكَّل قوّةً ضاربة داخل الحكومة تمارس قوّتَها وحضورَها في السنوات الأربع المقبلة لبناء أسسِ إيصال رئيس التيار جبران باسيل الى رئاسة الجمهورية؛ قوّةً تعبّر عن نفسها داخل الحكومة بتعيينات وخدمات وما شابَه ذلك، تُحدث صدى خارجها على المستويين السياسي والشعبي والمسيحي على وجه الخصوص، يُقدَّم فيه باسيل على أنه المسيحي القوي الذي لن يكون هناك منافس له أو بديل عنه للتربّع على عرش بعبدا.


- الرئيس المكلّف، يرى نفسَه في زمن الحكومة الجاري تأليفُها، غيرَ ما كان عليه في زمن الحكومة السابقة التي انتهت صلاحيتها وذهبَت مع كلّ الوضع السياسي الذي ساد خلال السنيتين الماضيتين، وطبعاً ذهبَت مع كلّ التفاهمات السرّية والعلنية و»التسويات الكبرى»، التي طويَت مع الانتخابات النيابية، وبالتالي لا يريد، بل لا يقبل بحكومة يبدو فيها محجّماً، وإنّما يريد حكومةً له وليست لغيره، حكومة يَحكمها لا حكومة يُحكَم فيها.


وثمّة من يكشف عن كلام اعتراضي تمَّ توجيهُه إلى التيار ورئيسِه باسيل مفادُه: «ما تطلبونه كحصّة وزارية لكم، يؤكّد بوضوح أنكم تريدون «الثلث المعطل» في الحكومة، فما الحكمة من الحصول على الثلث المعطل وحدكم كطرف، في وقتٍ أنكم مع حلفائكم («حزب الله») تحصلون على هذا الثلث».
والأكثر دلالةً في هذا الكلام أيضاً سؤال مقرون باستغراب: «الكلّ يَعلم أنّ الحكومة الجاري تشكيلها ليست حكومة مؤقّتة، بل «حكومة أربع سنوات»، وتصِرّون على تسميتها «حكومة العهد»، فبناءً على ما تطلبون، هل يعني ذلك أنّ رئيسها هو رئيس العهد؟ بالتأكيد هذا أمر غير مقبول.


- «القوات اللبنانية»، هدفُها الأساس تثمير انتصارها الانتخابي الذي ترى أنّه قدّمها صاحبةَ حضور واسع في الشارع المسيحي حتى بالمعايير العددية. وهو ما جعلها تتصدّى لِما باتت تعتبرها محاولة تحجيمها وعزلِها وتخفيض حصّتها في الحكومة ومستوى حقائبها، وبالتالي إضعاف موقعها كلاعب اساس في الساحة السياسية، دخولاً من محاولة نسفِ نتائج الانتخابات، وكذلك نسف «تفاهمِ معراب»، من هنا يأتي إصرارُها على المطالبة، وبإصرار، بحصّة وازنة في الحكومة، تتناصف فيها التمثيلَ المسيحي مع التيار الوطني الحر وفق معيار «تفاهم معراب».


ثمّة من يقول هنا، إنّ هذه المطالبة لا تتمتّع بالقدرة على إلزام الآخرين بها، ليس التيار وحده، بل كلّ الآخرين، فضلاً عن تفاهم معراب، وحتى ولو كان ما يزال حيّاً، فهو يُلزم طرفيه فقط، ولا يُلزم سائر الأطراف به. يضاف الى ذلك أنّ أحد طرفيه صار يجاهر بالقول « يهدّدون بنشر محاضر معراب، فليَنشروها». هذا القول منطلِق من قناعة هذا الطرف بأنّ التفاهم انتهى ولم تعُد له أيّ قيمة سياسية، بل تدرّج نزولاً إلى حدّ أنّ مضمونه صار فارغاً، ولم يبقَ منه سوى العنوان، الذي صار بدوره مادة مستخدمة على حلبة الاستهلاك الإعلامي لا أكثر.

هل ثمّة إمكانية لبلوَرة مخرج ما ؟


أمام هذا المثلّث التعطيلي، وما يجري إلى جانبه من سباق محموم على التوزير، و»فجع» على الحقائب السيادية والخدماتية والوزارات «المدهنة» يقف التأليف، والأمل مفقود حتى الآن في إمكان تقدّمِه إلى الأمام، خصوصاً أنّ أطراف «مثلّث التعطيل» تعتبر معركة الحكومة الحالية معركةً وجودية، جعلت جدرانَ هذا المثلّث سميكةً وصلبة، والسقوف العالية المطروحة في داخله دون أيّ إمكانية للتنازل أو التراجع عنها، أقوى من كلّ المحاولات الداخلية لاختراقها بإيجابيات تسهّل ولادةً طبيعية لحكومة تُعبّر بصدق عن واقع الحال السياسي.


خلاصة الكلام أنه في ظلّ هذه «المعركة الوجودية» المستمرّة والتي تدور بعقلية متصلّبة، تبقى بلوَرةُ المخارج بعيدةً عن متناول اليد، إلّا إذا وَجد أطراف هذا المثلث أنفسَهم أمام لحظة التنازل وتخفيض السقوف، ولكنْ مَن يتنازلُ لمن ؟ ومن يتنازل أوّلاً ؟