التفاهم السياسي هو اسمٌ على مسمّى، أي تفاهم بين طرفين على عناوين ومبادئ سياسية، ومتى أُفرغ التفاهمُ من مضمونه السياسي إنتفى وسقط.
 

شهدت العلاقة بين «القوات اللبنانية» وتيار «المستقبل» كثيراً من المدّ والجزر، ولكنها لم تسقط يوماً وحافظت على استمراريتها، والسبب حاجة الطرفين إلى هذا التحالف بغية تأمين التوازن السيادي في مواجهة الطرف الآخر، حيث لا هذا ولا ذاك يملك ترفَ الفصل والانفصال، بل المصلحة السيادية العليا حتّمّت وتحتِّم عليهما التواصل والتحالف.


ففي موازاة النظرة الوطنية المشترَكة التي تجسّدت بشعارات وعناوين تعكس واقع الحال على غرار «العبور إلى الدولة»، و»لبنان أولاً» و»الدولة أولاً»، ظلّت الحاجة ماسّةً الى التقاطع على أرض الواقع، لأنه لا يكفي أن تكون النظرة مشترَكة مع حليف معيّن قد لا يكون له الوزن الكافي ليشكّل التحالف معه حاجةً ومصلحة، فيما هناك مصلحة أكيدة وثابتة للتحالف بين «القوات» و»المستقبل»، حيث إنّ افتراقهما يعني استفرادهما والإطباق على المشروع السيادي، وبالتالي لا يملكان ترف الخيارات، فهما كالزواج الماروني ملزمان بعضهما ببعض، لأنّ خلاف ذلك يعني انهيار مشروعهما الوطني المشترك وتطويقهما إلى حدّ الإلغاء.


ومن هذا المنطلق بالذات، فإنّ أيَّ تحالف يجب أن يرتكز الى مضمون وفلسفة سياسية، كذلك يجب أن يُشكّل لطرفيه مصلحة مزدوجة: حاجة وطنية تتعلق بالأهداف الكبرى، وحاجة ذاتية تتصل بحماية بعضهما البعض تحقيقاً للمبادئ الوطنية العليا.


فهل ما تقدّم ينطبق على «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر»؟ وهل تفاهمهما يرتكز الى مضمون سياسي صلب؟ وهل هناك حاجة مزدوجة لتحالفهما: حاجة وطنية لتحقيق العناوين الكبرى، وحاجة ذاتية لحماية بعضهما بعضاً تحقيقاً لتلك العناوين؟


ما يجدر قوله إنّ الأسباب الموجبة لهذا التفاهم كانت قائمة في البدايات وهي التي أسّست ودفعت في اتّجاه التفاهم: لا مساواة في التوازن التمثيلي بين الرئاسات، لا مساواة في الشراكة التمثيلية الحقيقية في مجلسي النواب والوزراء، توظيف الحالات المسيحية المستقلّة الموزّعة على أكثر من كتلة لتكوين غطاء مسيحي بغية إمرار قرارات تتعارض والمصلحة الوطنية المسيحية العليا، وكل ذلك كان استمراراً لواقع التهميش الذي عاشته هذه البيئة في زمن الوصاية السورية، والحق يقال إنّ «القوات» لم تنجح، من موقعها في 14 آذار، في تصحيح الخلل، ولا العماد ميشال عون نجح من موقعه المتحالف مع «حزب الله»، فكان لا بد من التقائهما لتصحيح هذا الخلل، وهو ما حصل وحقق النتائج المرجوّة.


وحيال كل ما تقدم وغيره كان لا بد من تفاهم بين أكبر قوتين داخل البيئة المسيحية بغية استعادة التوازن وتحقيق الشراكة، خصوصاً أنّ هذا الواقع لا تشكو منه الطوائف الإسلامية السنّية والشيعية والدرزية، هذه الطوائف التي تبرّر لنفسها كل لحظة وحدة الموقف داخلها، وهذا أمر طبيعي، وبالتالي لا يستطيع أحد أن يعيب على المسيحيين وحدة موقفهم التي تجسِّد العنوان الميثاقي الذي لا يقلّ أهمية إطلاقا عن العنوانين السيادي والإصلاحي، وهي عناوين ثلاثة تتكامل من أجل قيامة البلد الذي يستحق أن يكون النموذج والرسالة. فلبنان بلد مركّب وتعدّدي ومتنوّع وتركيبته السياسية يجب أن تعكس بنيته الاجتماعية، والدعوة الى حسن التمثيل ليست موجّهة ضد الآخر، إنما تجسيداً للفكرة اللبنانية القائمة على المزاوجة بين البعدَين الطائفي والمدني.


وما تحقق في هذا الصدد ليس تفصيلاً على ثلاثة مستويات:


ـ الأول، وصول الأكثر تمثيلاً الى الرئاسة الأولى وتحقيق التوازن بين الرئاسات الثلاث، وهذا التطوّر ما كان ليتحقّق لولا ترشيح الدكتور سمير جعجع للرئيس ميشال عون.


ـ الثاني، إقرار قانون انتخابي تمثيلي اوصل أكثرية مسيحية بأصوات المسيحيين في سابقة أولى منذ «اتفاق الطائف» حتى اليوم، وهذا الأمر ما كان ليتحقق ايضاً لولا انتخاب عون رئيساً وإصرار «القوات» و»التيار الوطني الحر» على قانون من هذا النوع.


ـ الثالث، يتعلق بتعويد بعض القيادات أنّ المساحة الوطنية المسيحية ليست مشاعاً بل لها مرجعيّاتها على غرار الطوائف الأخرى من خلال تكريس قاعدة أنّ ما يصح على المسلمين يصحّ على المسيحيين بما يحقق المساواة المطلوبة بعيداً من نظريات «انّ الله خلق المسيحيين وكسر القالب»، وأنّ المطلوب منهم غير مطلوب من غيرهم لجهة التخلّي عن طائفتيهم، علماً أنهم الأقل طائفية، وقيادة مشروع الدولة العلمانية وإلى ما هنالك من أفكار نظرية لا تمتّ إلى الواقع بصلة وتنعكس سلباً على الدور الوطني المسيحي في الحفاظ على التجربة الوحيدة على مستوى التعايش السياسي، لأنّ التعايش الإجتماعي هو تحصيل حاصل...


فكل الأمور كانت على ما يرام إلى حين تقدّم مشروع رئاسة باسيل على مشروع إنجاح العهد وتكريس فلسفة «الرئيس التمثيلي»، وليس «الرئيس القوي»، أي الرئيس القوي بتمثيله وليس بعضلاته، فاختلط الحابل بالنابل وأصبحت الأولوية إضعاف وتحجيم كل مَن يقف حائلاً دون وصول باسيل إلى القصر الجمهوري.


والفارق بين «القوات» و«المستقبل» و«القوات» وباسيل أنّ الثنائي الأوّل تكاملي، أي يتكامل بعضه مع بعض وطنيّاً، فيما الثنائي الثاني تنافسي، أي يتنافس على أرض واحدة الأمر غير القائم مع «المستقبل»، وفي حال لم ينظِّم خلافه ينتقل تلقائياً إلى المواجهة السياسية في حال لم ينجح، على غرار الثنائي الشيعي، في رسم استراتيجية مشترَكة، الأمر الذي، ويا للأسف لم يحصل.


وهنا بالذات برز الفارق بين نظرة «القوات» الى «تفاهم معراب» ونظرة باسيل، أي الفارق بين نظرة استراتيجية ترتبط برؤية مثلّثة الأبعاد للبلد: سيادة، ميثاق، إصلاح، وتنفِّذ رؤيتها بسلاسة لا استفزاز، بمعنى أنّ استعادة الحقوق من اجل إحياء الميثاق لا تستدعي إدخال البلد في حروب أهلية، والمسألة تتمّ بالتراكم لا بالقوة، وبين رؤية سلطوية بامتياز وفي حالة عدائية مع معظم القوى السياسية، وإمكانية التقاطع معها قائمة في حالة واحدة هي دعم مشروعها السلطوي، والتعارض معها وارد في كل لحظة يتمّ فيها الابتعاد عن دعم هذا المشروع.


وكان اعتقاد باسيل أنه في ظلّ رئاسة عون وقانون الانتخاب يستطيع أن يكرّس أحاديّة مسيحية، ففاجأته الانتخابات النيابية بما لم يكن يتوقع، وتبعاً لنتائج الانتخابات بدأ حربه المزدوجة على «القوات» إن بتشويه صورتها أو تطويقها وتحجيمها تحقيقاً للأحادية في استحقاق 2022. فهو لا يريد شراكة استراتيجية، ولا تنظيم العلاقة تحت العنوان الاستراتيجي، وإلّا كان طبّق ما اتفق عليه في التفاهم لجهة التنسيق في كل شاردة وواردة، الأمر الذي لم يحصل، لأنه اعتباراً من لحظة تشكيل الحكومة الحالية بدأ يعدّ العدّة للتخلّص من «القوات».


لا خوف بالتأكيد على المصالحة، لأنّ زمن الحروب ولّى والخلافات من طبيعة سياسية، ومن مصلحة «القوات» و»التيار الوطني الحر» مهما اختلفا أن يحافظا على حدود معيّنة للمواجهة كونهما سيتشاركان في الحكومة ومجلس النواب والمجالس البلدية والاختيارية والصروح الجامعية والمواقع النقابية، وبالتالي المسألة لا تتعلق بالمصالحة ولا في التواصل بين البيئتين، إنما تتّصل بتفاهمهما السياسي الذي انتفى منذ لحظة انتخاب عون وبدء باسيل إعداد العدة لخلافته رئاسياً.


صحيح أنّ الثنائية القواتية - العونية هي ثنائية تنافسية وليست تكاملية على غرار الثنائية الشيعية، ولكنها تأسّست على مضمون سياسي وفلسفة سياسية استراتيجية، وكان في الإمكان تطوير مضمونها مع الحفاظ على تنافسيّتها، ولكنّ باسيل قرّر إطاحة التفاهم على مذبح رئاسة الجمهورية من طريق نسف الثنائية وتكريس الأحادية، الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق بفعل الوقائع على الأرض.


أفرغ باسيل، ويا للأسف، التفاهم من مضمونه السياسي، ولا تفاهم ولا تحالف من دون مضمون سياسي، وبالتالي التفاهم انتهى... وما تبقّى هو مجرد تفاصيل، وأيّ حوار يجب أن ينطلق من هذه النقطة بالذات، ولكن لا جدوى لحوار طالما أنّ الأولوية الذاتية اصطدمت وستصطدم بالأولوية العامة...