قد يجد النظام الإيراني لنفسه مخرجا من الأزمة الداخلية في حال ارتضى التصالح مع أميركا، لكن من الصعب عليه الخروج من البازار السوري في غياب القرار الشجاع القاضي بالانسحاب من هذا البلد.
 

بعيدا عن الكلام الكبير من نوع أن إيران قوّة إقليمية وأنها تستطيع ممارسة نفوذها في كل المنطقة، يجد هذا البلد، الذي كان يمكن أن يكون من النمور الاقتصادية في العالم، نفسه أسير بازاريْن. البازار الذي في طهران والبازار السوري في دمشق. يضاف إلى هذين البازاريْن الرمال المتحركة العراقية التي وجد نفسه غارقا فيها إلى ما فوق أذنيه. اضطره ذلك إلى تعطيل الحياة السياسية في البلد الجار الذي بات المواطنون فيه، بما في ذلك الشيعة، يشعرون بمدى ثقل الوصاية التي تحاول إيران ممارستها من منطلق مذهبي بحت.

قد يجد النظام الإيراني لنفسه مخرجا من الأزمة الداخلية في حال ارتضى التصالح مع أميركا، والتفاوض من موقع القابل بالشروط التي ستفرضها عليه إدارة دونالد ترامب. لكنّ من الصعب عليه الخروج من البازار السوري في غياب القرار الشجاع القاضي بالانسحاب من هذا البلد، بدل الرهان على أوهام سبق لكثيرين أن ذهبوا ضحيتها.

لا يختلف اثنان على أن تجار بازار طهران في غاية الدهاء. ليس سرا أنهم يشكلون قوة اقتصادية كبيرة وأن انقلابهم على نظام الشاه، الذي عبر عنه الإضراب الذي أعلنوه، ساهم إلى حد كبير في سقوط النظام الإمبراطوري في العام 1979. هناك الآن تململ واضح في أوساط البازار في طهران. لم يعد النظام يمتلك أي قدرة على تثبيت العملة الوطنية. هذا يعني أن النظام لم يعد قادرا على حماية المصالح الاقتصادية للذين لعبوا دورا في دعمه منذ أواخر سبعينات القرن الماضي وفضلوه على الشاه. إذا أضيف تململ تجار البازار إلى المشاكل الأخرى التي تعاني منها إيران وبعضها مرتبط بجفاف مصادر المياه وانتشار الفقر والبؤس والمخدرات، يكتشف المرء فشلا للنظام على كلّ صعيد. فشل تعبّر عنه لغة الأرقام، فشل لا يمكن تغطيته بانتصارات لا على العراقيين ولا على السوريين ولا على اللبنانيين ولا على اليمنيين.

يبقى البازار في طهران رمزا لقوّة اقتصادية كبيرة تلعب دورها على صعيد تحريك الاقتصاد في العاصمة وخارجها. عرف النظام الإيراني كيفية مراعاة هذه القوّة ومداراتها إلى أن وصل به الأمر إلى فقدان السيطرة على التحكّم بسعر العملة الوطنية. ترجمة ذلك على أرض الواقع أنّ التجار باتوا عاجزين عن ممارسة نشاطهم في غياب القدرة على الحصول على الدولار بسعر محدّد وفتح اعتمادات في المصارف. كان مجرّد الانسحاب الأميركي من الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني أكثر من كاف كي تهتز العملة الإيرانية. كيف سيكون المستقبل إذا فرضت إدارة ترامب العقوبات الجديدة التي تنوي اللجوء إليها، والتي تشمل تصدير النفط الإيراني الذي يشكل المورد شبه الوحيد للعملات الصعبة؟

أمّا البازار السوري الذي بات النظام الإيراني في أسره، فهو من نوع آخر وذلك على الرغم من أن معظم الضحايا في سوريا ليسوا مواطنين إيرانيين، بل ينتمون إلى ميليشيات مذهبية عراقية ولبنانية وأفغانية يستخدمها “الحرس الثوري” وقودا له في المعارك التي يخوضها خارج إيران. دخلت إيران بازارا اعتقدت أنه سيكون سهلا عليها التحكم به وإيجاد مكان للعبة المساومات والابتزاز التي تتقنها تماما. فعلت ذلك في حين يرفض اللاعبون الآخرون في سوريا أن تستمرّ إيران لاعبا في سوريا. الطرف الوحيد الذي يحتاج إلى إيران هو النظام الأقلّوي الذي يدرك مدى الارتباط بين إيران وشخص بشّار الأسد. هناك علاقة عضوية بين الجانبين مع فارق أن بشار يدرك قبل غيره أنّ ليس في استطاعته وضع كلّ بيضه في السلّة الإيرانية.

على الرغم من الفارق الكبير بين حافظ الأسد وبشّار الأسد، هناك ما يجمع بين الأب والابن. ما يجمع بينهما هو المعرفة العميقة بلعبة الابتزاز. كان حافظ الأسد يمارس هذه اللعبة بمهارة فائقة. عرف كيف يستخدم صدّام حسين في لعبة التوازنات الإقليمية. جعل من سوريا قوة قادرة بكل المقاييس على كبح طموحات الديكتاتور البعثي الآخر الذي لم يكن يعرف الكثير في السياسة وفي كيفية التعاطي مع التوازنات الإقليمية والدولية. أكثر من ذلك، عرف حافظ الأسد كيف يستخدم إيران في إطار الصراع العربي – الفارسي الذي أخذ أبعادا جديدة ذات منحى مذهبي بعد نجاح الثورة الإيرانية وصعود نجم آية الله الخميني بصفة كونه الزعيم الأوحد لهذه الثورة وتأسيسه لـ“الجمهورية الإسلامية”. لكن الأهمّ من ذلك كلّه أن حافظ الأسد عرف دائما كيفية التعاطي مع إسرائيل وتجنيدها لحماية النظام الذي أقامه بعد 1970، والذي أسّس له عمليا في العام 1966 عندما شغل موقع وزير الدفاع. ما لا يمكن المرور عليه مرور الكرام أن الأسد الأب كان وزيرا للدفاع عندما احتلت إسرائيل الجولان في العام 1967 في ظروف أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها غامضة.

استطاع حافظ الأسد تجاوز اللعبة الداخلية في سوريا، وأن يكون لاعبا على الصعيد الإقليمي، أي في بازار أكبر بكثير من رقعة بلده. كان اللاعب الأول ثم الوحيد في لبنان الذي أمسك من خلاله بالورقة الفلسطينية بفضل معرفته التامة بطبيعة ياسر عرفات الذي جعل قضيته أسيرة الأرض اللبنانية وشوارع بيروت وأزقتها.

باختصار شديد، كان هناك استخدام متبادل بين إيران وحافظ الأسد، خصوصا إبّان الحرب العراقية – الإيرانية، لكن مجيء بشّار الأسد إلى السلطة كان نقطة الانطلاق لعلاقة من نوع جديد بين الجانبين أصبحت اليد الطولى فيها لإيران التي لولاها لا وجود لأي نفوذ سوري في لبنان، خصوصا منذ العام 2005، تاريخ اغتيال رفيق الحريري، وهو اغتيال لم يعد سرّا من يقف وراءه ومن غطّاه في طهران ودمشق.

هناك الآن عودة إلى البازار السوري الضيّق حيث تحاول إيران إيجاد مكان لها في ظلّ لعبة كبيرة في سوريا نفسها يحدد إطارها الأميركي والروسي والإسرائيلي. الواضح أن الورقة الأساسية لطهران في هذا البازار هي بشّار الأسد، فضلا عن ميليشياتها المذهبية اللبنانية والعراقية والأفغانية. إلى أيّ حد تستطيع إيران الاتكال على بشّار الأسد في بلد معروف أنّها لا يمكن إلا أن تخرج منه عاجلا أم آجلا؟

لا شكّ أن رئيس النظام السوري أعطى الإيرانيين الكثير في الفترة الأخيرة. أعطاهم “شرعية” الوجود. وأعطاهم عدم الرضا عن الدستور السوري الجديد الذي يعدّ له الكرملين. وأعطاهم رفض الاعتراف السوري بوجود اتفاق بين إسرائيل وروسيا في شأن الجنوب السوري الذي يجب أن يكون خاليا من الإيرانيين. لكن ذلك كلّه لن يكون له معنى في حال وجد بشار الأسد نفسه في وضع من عليه دخول البيع والشراء في حال أراد البقاء في دمشق. إنّه يعرف قبل غيره أن وجود النظام الذي أسسه حافظ الأسد مرتبط بإسرائيل قبل أي شيء آخر.

سيأتي يوم يترحّم فيه النظام في إيران على بازار طهران. في مثل هذا اليوم سيعرف أن كلفة دخول البازار السوريّ، حيث الروسي والأميركي والإسرائيلي وحتّى التركي، أكبر بكثير من كلفة استرضاء تجار بازار طهران…