لم يعد خافياً أنّ اتفاق معراب بات وعاءً خاوياً، يفتقر الى مضمونٍ سياسي حقيقي، بعدما تحقّقت الغاية المضمرة منه بالنسبة الى «التيار الوطني الحر» (انتخاب ميشال عون رئيسا) و»القوات اللبنانية» (تظهير صورة جديدة لسمير جعجع). وعليه، فقد انتفت حاجتهما إليه، وفق صيغته السابقة، لكن المفارقة أنّ الطرفين يحاولان التمييز بين المصالحة وتداعي بنيان التفاهم.. فما القصّة؟
 

هناك في «التيار» و«القوات» من يفترض أنّ دينامية المصالحة المسيحية التي اطلقها اتفاق معراب ينبغي ان تبقى مستمرة، بمعزل عن الخلافات السياسية المستجدة. ويعتقد اصحاب هذا الرأي في الفريقين انّه يمكن فصل فلسفة المصالحة عن افتراق المصالح، على قاعدة تنظيم الخلاف مهما اشتدّ، وعدم نبشِ قبور الماضي مجدداً.

تبدو هذه المقاربة صعبة وربّما مستحيلة بسبب عدم واقعيتها، لكن بعض الرومانسيين على الضفتين يعتبرون انّها تستحق المحاولة.

يبدو واضحاً، انّ الجانبين يتهيّبان عموماً العودة رسمياً الى خطوط ما قبل 18 كانون الثاني 2016، تاريخ زيارة عون الى جعجع في معراب، حيث وقّعا الاتفاق الشهير، خصوصا انّ الساحة المسيحية التي انهكتها المعارك العسكرية والسياسية بين الأخوة، باتت متحسّسة اجمالاً حيال ايّ احتمال لتجدّد صراعهما وانفلاتِه من الضوابط.

وعليه، يحاول كلّ طرف ان يتبرّأ من دم الاتفاق المسفوك، وأن يحمّلَ الآخر مسؤولية ما آلَ إليه مصيره، مراعاةً للمزاج العام. إلا انّهما يدركان في الوقت ذاته انّ السلطة لا تتّسع لطموحاتهما المنفلشة، وأن المساحة المشتركة آخذة في التقلّص الى حد انّه قد لا يبقى مكان لتفاهم معراب، ولو وقفا على رؤوس الاصابع.

وسعياً الى إنقاذِ ما يمكن انقاذه، نشَطت خلال الايام الماضية محاولات حصر النيران التي اصبحت تهدّد بالتهام الاخضر واليابس في المسافة الممتدة بين الرابية ومعراب. وفي هذا الاطار، أبلغ جعجع الى عون، عبر اقنية التواصل المعتمدة، انّه ملتزم باتفاق معراب وفق تفسيره لنصّ الاتفاق المكتوب والمكوّن من اربع صفحات، تحمل كلّ منها توقيعَ جعجع ورئيس «التيار» الوزير جبران باسيل، الى جانب «الشاهدين» ابراهيم كنعان وملحم رياشي، اي طبقاً للآلية المتّبعة من قبل كاتب العدل، كما يقول مصدر قواتي.

وإذا كان نصّ ورقة التفاهم مع جعجع لا يحمل أصلاً توقيع عون، لكن قيل له خلال التواصل القواتي الاخير معه بأنه صاحب مقولة شهيرة وهي انّ كلمته اقوى من توقيعه، فأكّد انه ملتزم بكلمته، إلّا انّ ذلك لم يمنعه من تعداد لائحة طويلة بمآخذه على سلوك «القوات» في المرحلة الماضية، كاشفاً في هذا السياق عن انّ لديه معلومات تفيد بأنّ احد مسؤولي «القوات» هو الذي تولّى تسريبَ خبر توقيع مرسوم التجنيس الاخير الى احدى وسائل الاعلام، بغية استغلالِه ضد رئيس الجمهورية في إطار الحملة التي تستهدفه، لكنّ «القوات» نفَت ذلك، ونصَحت بعدم الاتكال على تقارير المخابرات، لافتةً الى انّه لو وصَلها مرسوم التجنيس، قبل ان تحدثَ الضجة حوله، لكانت قد ناقشَته بشجاعة مع عون وطلبَت منه ايضاحات مباشرة، من دون الحاجة الى استخدام وسيلة التسريب.

وعُلم انّ الرسالة القواتية الى عون تضمّنت عتباً، فحواه الآتي:

«ماذا فعلَ لك سمير جعجع يا فخامة الرئيس حتى تُشَنّ عليه هذه الحملة؟ لقد اختلف مع السعوديين والاماراتيين والاميركيين والفرنسيين من اجلِ انتخابك رئيساً للجمهورية، وهو خاضَ معركة وصولك الى الرئاسة ودَعَم ترشيحك، فهل هكذا يُكافأ على ما فعله؟»

وبينما تُرجّح بعض الاوساط المطلعة حصولَ تطوّرِِ ايجابي قريباً في مسار العلاقة بين بعبدا ومعراب، من شأنه ان ينعكس ايجاباً على مساعي تشكيل الحكومة وتسهيل مهمّة الحريري في الشقّ المتعلق بتذليل العقدة المسيحية، كان لافتاً انّ جعجع يحاول ترميم الجسور مع عون تحديداً، في حين لا تزال الخطوط مقطوعة مع باسيل، وفق تأكيد المصدر القواتي.

لكنّ باسيل يهزأ من المحاولات المستمرة للفصل بينه وبين عون و»التيار»، مشدداً على انّ من يتوهم انّه يستطيع ذلك لا يعرف نبضَ رئيس الجمهورية و«التيار الحر» «اللذين يذهبان احياناً أبعد من طروحاتي حيال «القوات اللبنانية»، وبالتالي فإنّ اصحاب هذه المخيّلة يَهدرون وقتهم ليس إلّا..»