هل ثمة إمكانية لإعادة إنعاش «تفاهم معراب»؟ سؤال تفرضه الوقائع التي أحاطت بهذا التفاهم منذ ولادته، وتفاعلت في الفترة الاخيرة الى حد أصابت هذا التفاهم بما يشبه هزّة سياسية عنيفة دفعت به الى منصّة الإعدام، بحيث اصبح ميتاً، ولكن مع وقف التنفيذ في انتظار إعلان النعي الرسمي!
 

الجواب البديهي انّ هذه الإمكانية صعبة وانّ ماكينة «اللّحم» لم تعد متوافرة بعدما انكسرت ما سمّيت «قاعدة الثقة» التي قام عليها، وتبيّن سريعاً انها لا تقوم على أسس صلبة.


وصعوبة إعادة الانعاش، هي قناعة راسخة ليس فقط لدى المراقبين الذين واكبوا العلاقة الخريفية التي حكمت الطرفين ما بعد انطلاقة عهد الرئيس ميشال عون وتشكيل حكومة العهد الاولى، وأدّت الى تساقط الاوراق الواحدة تلو الاخرى عن شجرة التفاهم، التي يبدو انها عانت الجفاف ولم تُروَ جيداً. بل هي قناعة راسخة اكثر لدى طرفي التفاهم قبل كل الآخرين، وهما على يقين بأنّ المفردات التجميلية والتصريحات الاعلامية عن حرصهما على بقاء «تفاهم معراب» على قيد الحياة، ما هي سوى محاولة إنعاش مؤقت لمريض يعيش حالياً بالتنفس الاصطناعي.

من المسؤول؟
بالتأكيد انّ هذا التفاهم كان أحد الجسور الاساسية التي عبر منها رئيس التيار ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، وفي الوقت ذاته كان جسراً لعبور «القوات» الى الحكومة بحصّة وزارية وازنة. هنا تنتهي إنجازات التفاهم، إذ بعد عبور هذه الجسور، وبدل ان يدخل التفاهم مرحلة التطبيق المعجّل كما هو متّفق عليه، أُدخل مرحلة التطبيق المؤجّل، ثم ما لبث ان صار بحكم المعطّل، وبدأت أوراقه تتساقط على حلبة التعيينات، والصفقات، والهروب من التنسيق والتفرّد في القرارات.


المراقبون المُحايدون، يضعون الطرفين في خانة واحدة، بحيث انهما من البداية وصلا الى تفاهم ينطبق عليه المثل القائل «الجَمَل بـ»نيّة»، والجمّال بـ»نيّة»، والحِمْل بـ»نيّة». ما يعني انه كان تفاهماً ذا وظيفة مؤقتة حدودها الانتخابات الرئاسية، ولا صلاحية مستقبلية له، وأراده الطرفان كلّ لغايته ومصلحته. ولأنه يفتقد الى الصلابة، لم يتمكن «التيار» و»القوات» من استنساخ التفاهم الصلب بين الثنائي الشيعي، بالنظر الى اختلاف الرؤى وافتراق النظرة بينهما حول العديد من القضايا والاولويات، كما لم يتمكّنا من فَرش غطاء التفاهم على كل الساحة المسيحية، بل على العكس انتفضَت شريحة واسعة من المسيحيين ونجحت في منع محاولة إلغائها وتهميشها، والانتخابات النيابية مثال حَي.


والاكثر وضوحاً في هذا السياق، انّ الطرفين يُلقيان على بعضهما البعض مسؤولية السقوط. وكلاهما يتبرأان منها. وفي اوساط الطرفين كلام واضح وصريح.


المتفهمون لوجهة نظر التيار يضعون القوات في قفص الاتهام، وانها بالغت في الرهان على التفاهم كفرصة لتحقيق ارباح ومكاسب سياسية، وبالغت في تقدير نفسها الى حد ارتكاب الخطأ الكبير في تقدير الاوزان والاحجام. من البداية كان التيار وفيّاً للتفاهم، ورئيسه جبران باسيل سبق له ان اكد انّ تفاهم معراب يهتزّ عندما يُدخَل في المصالح الصغيرة. وهذا ما حصل، وطبعاً ليس من قبل التيار.


وامّا المتفهمون لموقف «القوات»، فيسردون ما يشبه الإضبارة الاتهامية في اتجاه رئيس التيار. في رأي هؤلاء انّ باسيل لم يكن مخطئاً عندما قال انّ «التفاهم لم يعد قائماً»، لأنه منذ لحظة تنفيذ «القوات» الشق المتعلّق بها من الاتفاق، والمتمثّل بانتخاب عون رئيساً للجمهورية، بدأ باسيل يعدّ العدة لوقف مفاعيل هذا الاتفاق، فلم يتمكن من ذلك مع تأليف الحكومة الأولى بطبيعة الحال، ولكنه فور تشكيلها تراجع عن مبدأ التنسيق المشترك عشيّة كل جلسة حكومية. وعن مبدأ التشاور السياسي في الملفات الوطنية، وعن مبدأ المناصفة والشراكة في التعيينات على مستوى جسم الدولة اللبنانية.


وتلحظ «الإضبارة الاتهامية» انه لولا ترشيح «القوات» للعماد عون لَما انتخب رئيساً، ولكان الفراغ استمر، وبدلاً من ان يُبادل باسيل «القوات» بتنفيذ الشق المطلوب منه راح يتهرّب تدريجاً، وصولاً إلى إعلانه الأخير انّ «التفاهم السياسي لم يعد قائماً».


على انّ هذا التفاهم، بحسب الاضبارة الاتهامية، لم يكن وليد لحظة سياسية، إنما نتيجة معاناة وتجربة أظهرت أنّ تحقيق رؤية الطرفين الميثاقية لا تتحقق الّا بتفاهمهما وتقاطعهما، وهذا ما حصل في الانتخابات الرئاسية وقانون الانتخاب.


وتورد الإضبارة الاتهامية في خلاصتها «انّ أجندة باسيل الرئاسية اصطدمت بتفاهم معراب، وكأنه يريد إضافة ملحق على الاتفاق ينص على انتخابه رئيساً خلفاً للرئيس عون وإلّا يصبح التفاهم بحكم المُلغى، الأمر الذي لا يمكن ان يتحقق. وبالتالي، كان هناك فرصة حقيقية لهذا التفاهم بَدّدها باسيل، وهي الفرصة نفسها التي كانت امام العهد الذي كان عليه التحالف مع الأقوياء ربطاً بنظرية الرئيس القوي من اجل ان يكون عهده نموذجياً، ويتمكن خلاله من تحقيق ما عجز أسلافه عن تحقيقه بالإصلاح ومكافحة الفساد، ولكنّ أجندة باسيل قضَت بمواجهة كل الأقوياء الذين لا يسلمون برئاسته للجمهورية، فأدخل العهد بمواجهات مع كل القوى الأساسية من دون استثناء».


وتنتهي الى فرضية انّ تصحيح المسار ممكن وترميم التفاهم ممكن، وشرطه «العودة الى الالتزام الكامل والصادق بالتفاهم، وبالتالي إلغاء الأجندات الرئاسية»... الّا انّ هذه الفرضية تنسفها المشاعر المتبادلة والقلوب المليانة، التي يبدو أنها أصبحت أكبر من تفاهم معراب بكثير.