من يرضون بنظام المحسوبية لن يتفاعلوا مع المشكلات الاقتصادية ولن يبدلوا خياراتهم الانتخابية، والقضية الرئيسية بالنسبة إليهم هي كيف تدير الحكومة نظام المحسوبيات وليس كيف تتغير المعايير الاقتصادية.
 

اندلعت “حرب الصور” على هامش المبارزة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظرائه في مجموعة الدول الصناعية الكبرى. وكانت المبادرة من فريق المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الذي عمم صورة من داخل قمة السبع في كندا تبدو فيها ميركل واقفة وهي تضغط بيديها على الطاولة وتحدق مباشرة في وجه ترامب الجالس في الجانب الآخر من الطاولة ويتخذ وضعية دفاعية من خلال تشبيك ذراعيه، وظهر باقي قادة السبع متحلقين حولهما ومتابعين باهتمام للمواجهة الحادة بينهما.

وسرعان ما توالى نشر الصور من زوايا مختلفة لتلميع صور بعض المشاركين، لكن ميركل التي سرقت النجومية، لم تنج من سهام ترامب الذي شن عليها الحرب التجارية وتدخل في الجدل الداخلي في ألمانيا حول الهجرة منحازا إلى وزير الداخلية هورست زيهوفر زعيم حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي البافاري حليف ميركل.

هكذا تتعرض المرأة الألمانية الحديدية أنجيلا ميركل إلى “النيران الصديقة” من الحليف العالمي الأبرز ومن الشريك الداخلي الأقرب على حد السواء. ومع تراكم متاعبها منذ عدم حصولها على الأكثرية المطلقة في الانتخابات التشريعية في سبتمبر 2017 واستغراقها عدة أشهر قبل إعلان حكومة ائتلافية، تراجع نفوذ ميركل ولم تعد تلك “الإمبراطورة” كما تم وصفها خلال فترة صعودها في 2015.

وتواجه المستشارة الألمانية جملة تحديات: أزمة قيادة في الاتحاد الأوروبي والعلاقة الشخصية المتدهورة مع الرئيس ترامب والحرب الجمركية مع الولايات المتحدة والخلافات داخل مجموعة السبع الكبار والتوتر مع روسيا ومعضلة المهاجرين واللاجئين. استنادا إلى هذه الاستحقاقات، تبدو الحقبة الحالية بالنسبة لأنجيلا ميركل أكثر صعوبة مع طغيان التهديد الداخلي الأكثر إلحاحا.

ولا يمكن مقاربة ألمانيا في هذه الحقبة من دون تلمس تطور سياساتها الخارجية وموقعها في التنافسية العالمية. ومن دون شك، يؤثر التاريخ الألماني بكل مراحله على خيارات صاحب القرار. ومن هنا أتى التعويل على الاقتصاد والقوة الناعمة بعد ويلات وجرائم النازية المروجة للقوة الغاشمة والتفوق.

وترتبط النكسات والحيوية بتركيبة ألمانيا وعلاقتها بالخارج القريب والبعيد، ولم تكن النهضة الاقتصادية ممكنة بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية لولا دعم واشنطن والصداقة الحميمة الأميركية – الألمانية التي سهلت إعادة توحيد ألمانيا وعملية البناء الأوروبي.

واليوم تتغير المعادلات الدولية لأن تصدع العولمة بصيغتها الحالية يعزز المسعى الأميركي للحفاظ على الصدارة العالمية بوجه أبرز الأقطاب الاقتصادية وفي المقام الأول منها الصين والاتحاد الأوروبي. وهكذا مع ولايتها الرابعة (ستكون الأخيرة على الأرجح وهناك شكوك في إكمالها) التي بدأت رسميا في مارس الماضي، تحاول أنجيلا ميركل ترك بصمتها الإيجابية على تاريخ آخر لألمانيا وأوروبا.

لكن المهمة ليست دربا مفروشة بالورود لأن سياسة “الباب المفتوح” التي اعتمدتها حيال المهاجرين وطالبي اللجوء منذ ثلاث سنوات، فتحت الدرب حسب خصومها إلى صعود حزب البديل اليميني المتشدد وخطابات العنصرية وعدم الاعتراف بالآخر، ولأن تركيبة تحالفها تجعل وضعها هشا، ويتزامن ذلك مع حالة مراوحة في المكان وأزمة هوية داخل الاتحاد الأوروبي بعد البريكست والانتخابات الأخيرة في إيطاليا وموجة صعود الشعبويين.

وتزيد الأعباء حيال تحدي ترامب مما حدا بميركل في أكثر من مناسبة للمطالبة بتحديد واضح لدور أوروبا في العالم، لكن ترجمة هذا الطموح تتطلب متانة داخلية ألمانية أخذت تتعرض للاهتزاز، وديناميكية أوروبية لا يعطلها فقط غياب المشروع الأوروبي بل كذلك نزعة السيطرة الألمانية.

من هنا تبقى العلاقة بين واشنطن وبرلين محورية وحيوية خصوصا بالنسبة لألمانيا، إذ بلغت الصادرات الألمانية إلى الولايات المتحدة 112 مليار يورو في 2017 مقابل 61 مليار دولار للواردات من واشنطن. وهذا العجز التجاري الكبير لغير صالح الولايات المتحدة يشكل مدخلا لفهم نهج ترامب وقراره فرض رسوم جمركية إضافية مما يمكن أن يؤدي حسب القراءة الألمانية إلى حرب تجارية دولية تزلزل قواعد منظمة التجارة الدولية والتبادل الحر.

إضافة إلى اتهامات الانغلاق والحماية الجمركية الموجهة لواشنطن، تخشى ألمانيا من انعكاسات قرارات ترامب لأن هذه العقبات التجارية ستضر بالاقتصاد الألماني الذي بلغ فيه مردود صادراته مستوى 40 بالمئة في العام الماضي. كما تشكل الولايات المتحدة الأميركية أقوى سوق لصادرات الشركات الألمانية بنسبة عشرة في المئة من مجموع الصادرات الألمانية.

وفي المقابل، هناك حجم مهم للاستثمار الأميركي في ألمانيا سيتأثر بالحرب التجارية ومن دون شك يبقى الطموح الاقتصادي الألماني تحت مجهر واشنطن خاصة لناحية حجم العلاقة مع الصين المصدر الأول نحو ألمانيا في 2017، أو لجهة العلاقات الديناميكية لألمانيا مع لاعبين مثل إيران أو روسيا ترغب واشنطن أن يكون ذلك مقننا وفق الخيارات السياسية للعلاقة الأطلسية–الأطلسية.

وفي مواجهة ضغط إدارة ترامب، لم تتحمس ميركل لإجراءات وردود مضادة من خلال مجموعة الدول السبع أو الاتحاد الأوروبي، لأنها تخشى من امتداد الإجراءات الأميركية إلى قطاع السيارات الألماني، وتفضل الإبقاء على حوار لمنع تفاقم الحرب الجمركية بواسطة قناة المفوضية الأوروبية.

وعلى ضوء الواقع الجديد للعلاقة عبر الأطلسي تسود الريبة في برلين حول ديمومة المظلة العسكرية الأميركية وأخذت الأوساط الألمانية تشارك باريس الخشية من الانكشاف الاستراتيجي الأوروبي إن كان حيال روسيا، أو الظهور بموقع الشريك التابع لواشنطن والمعتمد عليها. لذا أعلنت ميركل منذ أواخر 2016 عن مضاعفة الإنفاق العسكري حتى يصل إلى نسبة 2 بالمئة من مجمل الدخل القومي العام.

وبالرغم من هذا الجهد لتصويب الوضع داخل حلف شمال الأطلسي ستبقى العلاقة الأميركية–الألمانية عرضة لاهتزازات حادة على المدى المنظور، وليس من الأكيد أن تتقدم المستشارة على خط استنهاض الاتحاد الأوروبي، خاصة أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي انتظرها منذ سبتمبر الماضي لبلورة مشروع مشترك لإصلاح منطقة اليورو، يستنتج أن معضلة الهجرة غير الشرعية تزعزع ركائز الاتحاد الأوروبي ومنظومة القيم فيه ويطغى على جهود إصلاح سيكون من الصعب التوصل إليه في ظل الموجة الشعبوية الصاعدة في أوروبا. وستكون انتخابات البرلمان الأوروبي في 2019 محطة هامة لرصد اتجاهات السياسة الأوروبية وإمكانية إنقاذ أو تفكك الاتحاد الأوروبي على مدى متوسط.

وبانتظار ذلك، تواجه المستشارة الألمانية أزمة داخلية خطيرة بسبب ملف المهاجرين واللاجئين الذي غدا كعب أخيل أدائها السياسي، قد تؤدي إلى انفراط الائتلاف الحكومي، حيث يهدد وزير داخليتها باتخاذ قرار منفرد بإيقاف اللاجئين على الحدود وإعادتهم إلى الدول الأوروبية التي أتوا منها، إذا لم تنجح ميركل في التوصل لحل مع الشركاء الأوروبيين. المستشارة إذا في سباق مع الزمن حتى نهاية الشهر الجاري لكي تتفادى ربما أكبر أزمة في تاريخ مسيرتها.