يتعرّض رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري لحملة سياسية ظالمة تحت عنوان تأخير التأليف، وتحميله مسؤولية هذا التأخير، فيما هو يقوم بدوره على الوجه المطلوب منه.
 

تكليف الحكومة منوط دستورياً برئيس الحكومة المكلّف، ولكن هذا لا يعفي إطلاقاً القوى السياسية من مسؤولياتها في هذا الإطار أيضاً، فالرئيس المكلف لا يؤلف حكومة لتيار «المستقبل»، إنّما يؤلفها لكلّ البلد، وبالتالي كلّ فريق معنيّ من جهته بملاقاة الحريري في منتصف الطريق.


فماذا يمكن أن يفعل الرئيس المكلف في حال تمسّكَ فريق سياسي بوجهة نظره التي تتعارض مع وجهة نظر فريق آخر؟ وكيف يمكن أن يوفِّق بين وجهة نظر هذا وذاك في حال تمسّكِهما بوجهة نظرهما؟ فهل يجب أن ننتظر منه العجائب مثلاً؟ فهو يقوم بالتواصل مع جميع القوى السياسية في محاولة لتقريب وجهات النظر حول مساحة مشتركة.


فمهمّة الرئيس المكلف الخروج بالتصوّر أو الرؤية التي تتوافق وتتقاطع مع القوى السياسية التي ستتألف منها الحكومة. لا شكّ في أنّه من موقعه سيَدفع باتجاه معيّن ويَضغط باتجاه آخر ويرفض منحى ثالثاً ويتشدّد في حالة رابعة، وكلّ ذلك من أجل إخراج حكومته إلى الضوء.


فهل هناك من يعتقد مثلاً أنّ الرئيس الحريري لا يستعجل التأليف على غرار معظم القوى السياسية؟ وهل هناك من يتصوّر أنّ رئيساً مكلّفاً لا ينتظر اللحظة التي يصبح فيها رئيساً فعلياً للحكومة التي يَعتزم تأليفها؟ وهل هناك من يستعجل التأليف أكثر من الحريري نفسِه؟


هناك مبالغة بالتأخير من دون شكّ، لأنه لم ينقضِ الشهر الأوّل بعد على تكليف الحريري، وهذا لا يعني تبرير التأخير، حيث إنّ الحكومة يجب أن تؤلَّف اليوم قبل الغد من أجل مواجهة التحدّيات وما أكثرها وعلى أكثر من مستوى وصعيد، ولكن لا يجوز بالمقابل رميُ المسؤولية في حضن الرئيس المكلّف وكأنه المسؤول عن التأخير.


وأيُّ مراجعةٍ لعمر الحكومات يتبيّن أنّها لا تبصِر النور بأقلّ من شهرين وثلاثة وما فوق، وقد يكون الفارق هذه المرّة، ونتحدّث طبعاً عن مرحلة ما بعد العام 2005، أنّ الانقسام الوطني العمودي الذي كان يَحول دون التأليف غير موجود اليوم في ظلّ اتفاق معظم القوى السياسية على تحييد العناوين الكبرى وترحيلها، دون أن يتراجع أيّ فريق عن رؤيته وقناعاته، وهذا الترحيل كان كافياً من أجل تبريد المناخات السياسية والذي سمحَ بانتظام العمل المؤسساتي.


ومِن هذا المنطلق هناك من يقول إنه في ظلّ هذا التبريد والترحيل والاتفاق، لا يجوز أن يتأخّر التأليف، وهذا الكلام في المبدأ صحيح، ولكن لا يجب الاستهانة إطلاقاً بالتفاصيل التي يتابعها الرئيس المكلّف عن كثب ويلاحقها مع كلّ فريق إنْ من خلال اللقاءات الشخصية أو التواصل الهاتفي أو الموفدين.


وما يَجدر قوله إنّ العقَد الموجودة ليست تفصيلية وحلّها لا يكون بسِحر ساحر، ولا يجب الافتراض أصلاً أنّ العقَد التي من طبيعة وطنية وحدَها التي تُعرقل التأليف، لأنّ هذه النظرة لا تقيم أيَّ اعتبار للعقَد الداخلية المتمثّلة برؤية كلّ فريق لوزنِه ومطالبه وكيفية التوفيق بينها.


وأمّا الكلام عن عقَدٍ خارجية فهو كلام للكلام ويَدخل في سياق الضغط المقصود ولكن المضِر والمسيء، وحسناً فعلت بعض الأوساط الرسمية في 8 آذار بالتأكيد أكثر من مرّة أن لا عقدةَ خارجية من أجلِ قطعِ الطريق على بعض المواقف أو التحليلات التي تضع التأخيرَ في السياق الخارجي، لأنّ القاصي يَعلم كما الداني أن لا عقدة خارجية وأنّ كلّ الدول العربية والغربية من الرياض إلى واشنطن وما بينهما تضع نصب أعينِها تأليف الحكومة العتيدة بغية أن يحافظ لبنان على استقراره السياسي والاقتصادي والأمني.


وقد يكون مفهوماً أنّ موضوع الساعة هو تأليف الحكومة الذي تحوّلَ إلى الشغل الشاغل للصحافة اللبنانية، وهذا يشكّل بحدّ ذاته عاملَ ضغطٍ كبير لا يمكن الاستهانة به، ومادةً يومية تبحث عن التأليف وما استجدّ فيه من تطوّرات.


ولا يجب الاستهانة في المقابل بعامل الوقت الذي يشكّل جزءاً لا يتجزّأ من مفاوضات التأليف والذي يمكن أن يستخدمه الرئيس المكلّف من أجل دفعِ الأطراف إلى التراجع عن تصَلّبها، وبالتالي الكلام عن تحديد مدة التأليف زمنياً ليس في محلّه ليس فقط من زاوية الحد من صلاحيات رئيس الحكومة، الأمر المرفوض والذي هو خارج البحث، إنّما لجهة أنّ الرئيس المكلف لا يتحمّل وحده مسؤولية التأخير، وبالتالي لا يجوز معاقبته أو تحويل التأخير والتأخير المتعمّد إلى وسيلة ضغط على رئيس الحكومة المكلّف وسيفٍ مسلط لانتزاع تنازلات منه أو الدفع إلى تكليف غيره، فيما يجب الإقرار بأنّ التأخير مسؤولية مشتركة، والرئيس المكلف يعمل قدر المستطاع على التوفيق بين مطالب جميع القوى.


ولا شكّ في أنّ الوضع الحالي من كلّ جوانبه يَستدعي الإسراع في التأليف، سيّما أنّ لبنان شهدَ في المرحلة الفاصلة بين تحوّلِ الحكومة إلى حكومة تصريف أعمال، وبين انطلاق المشاورات السياسية لتأليف حكومة جديدة، توالُدَ أزماتٍ بشكل غير طبيعي، ويكفي تعداد تلك الأزمات أو الفضائح التي خرجت إلى الضوء لتبيان دقّةِ الوضع وحراجته، وذلك من مرسوم التجنيس الذي كان هناك محاولة لتهريبه وتبيَّن أنه غير مستوفٍ للشروط المطلوبة، إلى أزمة النازحين التي كشَفت عن غياب رؤية مشتركة لمقاربة هذه الأزمة التي أدخَلت لبنان في مواجهة مع المجتمع الدولي، وصولاً إلى الأمن المتفلِّت في البقاع بشكل غير مسبوق ويسيء إلى صورة الدولة وهيبتها تماماً على غرار بعض المواقف التي أساءت بحجّة التقصير إلى تلك الصورة، والتهريب المفتوح عبر المعابر غير الشرعية، وأزمة القناصل الفخريين، وأزمة جوازات سفر الإيرانيين، وفضيحة التلاعب بمحاضر مجلس الوزراء، والأزمة الاقتصادية التي دفعت وتدفع حاكم مصرف لبنان إلى تطمينات شِبه يومية على هذا المستوى، الأمر الذي يُفاقم الشكوك حول سلامة الوضع المالي...


وما تقدَّمَ هو عيّنة من أزمات تكشَّفت وتفاعلت، وهناك غيرها الكثير بطبيعة الحال، ويؤشّر إلى وجود انحلال وترهُّل وشيخوخة مبكرة لمرحلة كان يُفترض أن تبدأ مع انتهاء الانتخابات النيابية بزخمٍ كبير وحيوية أكبر بالاتّكاء على المومنتم الانتخابي والدينامية التي ولّدتها الانتخابات، ولكن، ويا للأسف، حصَل خلاف ذلك.


وحيال كلّ ما تقدّم يشكّل استعجال التأليف ضرورةً قصوى، ولكن لا يجب في أيّ حال من الأحوال تحميلُ رئيس الحكومة المكلف تبعاتِ مسؤولية التأخير، لأنه حريص كما غيره على تأليف الحكومة الجديدة بأسرع وقت ممكن، ويفترض أن تنقل لبنان من الواقع القائم إلى واقع أفضل على شتّى المستويات.