لا يشبه الخطابُ اللبناني الخاص بملف النزوح السوري في لبنان، في أيٍّ من مفرداته، الخطاب الدولي المعتمد في شأنه. ولا مبالغة في القول أنّ لبنان هو في حال إشتباك قانوني وسياسي في شأنه مع المجتمع الدولي ومؤسساته المتابعة لملف «اللاجئين السوريين» بحسب التسمية القانونية المعتمَدة دولياً، وليس «النازحين السوريين» بحسب التسمية اللبنانية.
 

وبعيداً عن السجال بين وزير الخارجية جبران باسيل والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين الذي تحوّل أخيراً تراشقاً سياسياً وقانونياً، فإنّ معلوماتٍ توافرت لـ«لجمهورية» تشير الى أنّ هذا الملف أخذ سياقاً دولياً آخر في نقاشه ظلّ بعيداً من الإعلام.

يحاول هذا النقاش إيجاد صيغة مقارَبة للتعاطي مع النازحين السوريين في لبنان، تكون من جهة منفصلة عن النظرة لملف وجودهم في دول أخرى، ومن جهة ثانية تراعي قدرات لبنان على تحمّل هذا الملف في ظلّ خصوصية وضعه الاقتصادي والسياسي الراهن، ومن جهة ثالثة تراعي مسألة سياسية حساسة في الغرب تتعلّق بتوقيت عودتهم ووفق أيِّ معايير..

بداية يتسلّح لبنان في هذه النقاشات بأنه لم يوقّع اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، وبالتالي فهو ليس ملزماً قانوناً بأن يماشي توصيف المجتمع الدولي للنازحين السوريين الذين يعتبرهم «لاجئين» ما يمنحهم حقوقاً مختلفة ويمنع إعادتهم الى بلدهم في حال لم يطلبوا ذلك. بينما وجهة نظر لبنان غير الموقع على اتفاقية 1951، تعتبرهم «نازحين» وتلتزم تجاههم بما يتلاءم مع «صفة نازح» التي تحتّم على لبنان واجبات أقلّ نحوهم من تلك التي توجبها «صفة لاجئ».

وعلى رغم أهمّية هذه النقطة لصلتها بتحديد التوصيف القانوني للنزوح السوري في لبنان، كون اعتماد أيّ من التوصيفين (نازح) و(لاجئ)، يحتّم فارقاً بمنسوب التزامات لبنان نحوهم، إلّا أنّ مشكلة لبنان مع المجتمع الدولي في شأن هذا الملف تكاد تنحصر بالخلاف على توقيت عودتهم ومعاييرها القانونية واستتباعاً السياسية، ذلك أنّ لبنان يقدّم لهم، فعلياً، إستضافة تقع بتوصيفها العملي عند نقطة تتجاوز في تقديماتها ما يقرّه القانون الدولي لـ«النازح»، وتكاد تقارب في بعض الجوانب حقوق «اللاجئ». وبهذا المعنى يبدو النقاش الجاري حالياً بين لبنان والمجتمع الدولي حول ملف النزوح السوري، ذا خلفية سياسية بامتياز، على رغم أنّ قشرته الظاهرة قانونية.

وتشير متابعة هذا الملف في كواليس نقاشاته البعيدة عن الأضواء، الى حقيقة ينبغي تسجيلها، وهي أنّ رفعَ لبنان صوته عالياً في الساحة الدولية، إعتراضاً على رفض المجتمع الدولي لسعيه بدء تنظيم عودة منذ الآن للنازحين لبلدهم، أثمر عن جعل دول إقليمية ودولية تطرح بعيداً عن الضوء أفكاراً أوّلية لإيجاد «تسوية وسط» بين ما يريده لبنان في هذا الخصوص وبين ما يريده الغرب في شأن جعل إقامتهم أطول وخارج النقاش حالياً.

وفي معلومات لـ«الجمهورية» أنّ هناك «فكرة مبادرة» تمّ البحث فيها أخيراً لدى جهات مشاركة في إطار «أستانا» الخاص بالازمة السورية، وفحواها أن يُصار الى إدراج ملف النازحين السوريين في لبنان ضمن مسار إجتماعات أستانا.

وهذه الفكرة التي لا تزال في مرحلة الإقتراح الأولي تتطلّع لترحيل هذا الملف الى مسار أستانا، على أن تؤدّي الدول الضامنة لحسن تنفيذ قرارت أستانا (إيران وروسيا وتركيا)، دورَ ضمان عودة النازحين السوريين، مع اضافة الاتّحاد الأوروبي الى الدول الضامنة لحسن تنفيذ هذا الملف.

وثمّة جهات ترى أنّ فكرة نقل البحث في ملف النازحين السورين في لبنان الى أستانا، قد يُفضي الى إرساء حلول ابتداعية لهذا الملف، نظراً للأسباب الآتية:

ـ أولاً، كون إجتماعات أستانا تشكّل إطاراً دولياً وإقليمياً لرسم مناطق الهدن العسكرية في سوريا، وذلك بين النظام السوري والمعارضة العسكرية. وتشارك فيه الى جانب هذين الطرفين الدول الضامنة لمناطق الهدن التي يتمّ التوصلُ الى اتّفاقاتٍ حولها في أستانا (مناطق «خفض التوتر»)

ـ ثانياً، يمكن لأستانا بحكم وظيفتها الميدانية هذه أن تكون الجهة الأقدر عملياً على تحديد المناطق الأكثر ملاءمةً من الناحية الأمنية لكي يعود النازحون السوريون في لبنان اليها. وبما أنّ قوى الميدان السوري بشقّيه معارضة ونظام، تشارك في أستانا، فإنّ هذا يوفّر إمكانية الحصول من هذه القوى الميدانية على تعهّدات بضمان سلامة النازحين في مناطق سيطرتهم، وذلك تحت طائلة مساءلتها أمام الدول الضامنة لمناطق الهدن في حال إخلالها بتعهّداتها هذه.

وحتى اللحظة لا يزال هذا الاقتراح مجرد فكرة ترمي الى تطوير توجّه موجود حالياً داخل نادي دول «أستانا» لنقل ملف النازحيين السوريين في لبنان أصبح ضمن إهتمام مسار «أستانا».

ويعدّد مصدر مطّلع على الطريقة التي يتفاعل بها هذا الملف دولياً الآن، مجموعة عوامل سياسية وأمنية تتحكّم به. لكنّ أبرزها على الاطلاق هو العامل المتصل بالنزاع الدولي الجاري في هذه اللحظة حول عنوان: «أيّ تسوية سياسية نهائية يجب إرساؤها في سوريا؟».

وضمن هذا السؤال هناك حالياً استحقاقات عدة يدور اشتباك عالمي واقليمي عليها، وفي مقدمها عنوان تشكيل الهيئة الدستورية، التي ستُكلَّف صوغ دستور جديد أو تعديل الدستور الحالي، ومن ثمّ مراجعة موعد الانتخابات الرئاسية في سوريا: فهل يجب تثبيت موعدها (2021) أم تبكيرها؟.

وفي الحالتين، فإنّ الدول الراغبة بتغيير الرئيس بشار الاسد، تريد إبقاء ورقة اللاجئين (او النازحين) السوريين في يدها، أقله حتى ما بعد 2021، كونها تعتبر أنّ ديموغرافيا النزوح السوري في دول جوار سوريا، هي ورقة إنتخابية قوية في يدها، وخصوصاً النازحين في لبنان الذين تشرف الدول المانحة عليهم مباشرة، وتحتكر ايضاً «داتا» المعلومات عنهم.

في مقابل ذلك يريد النظام عودةً مبكرة للنازحين في لبنان الى مناطقه، وذلك بالتنسيق مع الدولة اللبنانية، لأنّ إرجاعَهم الى مناطقه قبل موعد الانتخابات الرئاسية السورية، يجعلهم ضمن مناخه السياسي الانتخابي، ويُخرجهم من تبعيّتهم إنتخابياً للدول المانحة لهم والمعارضة لبقاء الاسد. وواقع حال ملف النازحين السوريين في لبنان في هذه اللحظة، يتفاعل داخل مساحة هذا النزاع ويؤثر على سياقاته مباشرة.