حتى الآن، ما يزال مشروع الحلّ الأميركي للحدود البرّية والبحريّة المتنازَع عليها بين لبنان وإسرائيل في علم الغيب. وعلى رغم «الحماسة» الأميركية في تبنّي مشروع الحلّ والسرعة في طرحه منذ فترة غير بعيدة لم يطرأ أيُّ جديد حيال هذا الملف، أو أيُّ بادرة تحريك له توحي بجدّية في بلوغ حلٍّ ينزع فتيلَ الانفجار المؤجَّل.
 

لبنان في هذا الجوّ الرماي، ينتظر أن يتلقّى من الجانب الأميركي تصوّراً واضحاً حول مشروع الحلّ المطروح ولا يملك ما يؤشر الى مبادرة أميركية من هذا النوع في الوقت الراهن، بل يملك فقط بعض إشارات وُصفت بالإيجابية، سبق أن أرسلتها واشنطن الى الجانب اللبناني الذي تلقّفها إيجاباً وتعامل معها بما يخدم مصلحته ويؤكّد سيادته الكاملة على برِّه وبحرِه.


لكن وسط هذا الجمود، وبدل أن تهبَّ الرياحُ الإيجابية المنتظرة، لاحت في الافق اللبناني ما يمكن وصفُها بـ«إشاراتٍ لا توحي بالاطمئنان»، من شأنها أن تضرب صدقية التوجّه نحو حلٍّ للحدود من أساسها وتجعلها موضعَ شك.


المريب في هذه الإشارات أنّ مصدرها ليس أميركياً، وليس إسرائيلياً، بل إنها صدرت عن «طرف ثالث»، والمريب أكثر فيها هو مضمونها الخطير الذي يلقي على لبنان مسؤولية تعطيل حلّ الحدود قبل أن يبدأ الحديث فيه بشكل رسمي.


فقبل أيام قليلة حصل لقاءٌ بين أحد الصحافيين الأجانب في لبنان «وشخصيّة أممية» تشغل منصباً مهماً في الامم المتحدة، ووصل الحديث بينهما الى أزمة الحدود بين لبنان وإسرائيل.


المثير في الأمر أنّ الشخصية الأممية المذكورة، خلعت ثوبَ «الحيادية» وتجاهلت بالكامل موقفَ لبنان وحدوده وحقه في سيادته، ونطقت بلسانٍ بدا عبريّاً مئة في المئة. وبدت متفهّمة بالكامل للموقف الإسرائيلي الى حدّ تبنّيه حيث قالت للصحافي الاجنبي المذكور ما حرفيّته: «إنّ موقف رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، من موضوع الحدود، ليس مشجّعاً ولا يساعد على بلوغ حلٍّ لهذه المسألة، بل يمكن أن يعطّله. وهذا الموقف إذا ما تمّ الاصرارُ عليه والتمادي به فسوف يؤدّي الى تأجيج الوضع وربما يفاقم الأمور الى حدّ إشعال حرب».


وأضافت قائلة ما مفاده «أنّ أمام لبنان فرصة للاستفادة من الليونة الإسرائيلية في هذا الموضوع، والتي قد لا تتكرّر».


الأسرار، وكما هي العادة في لبنان، لا تنام طويلاً في الغرف المغلقة، إذ سرعان ما تسرّبت وقائعُ اللقاء وبلغت جهاتٍ لبنانية على صلة مباشرة بملفّ الحدود. ومن الطبيعي هنا أن تُقرع أجراس الريبة. وتتلاحق معها الاسئلة:


- باسم مَن تنطق هذه الشخصية الأممية؟
- ما هي خلفيات ودوافع كلامها؟
- هل تمهّد لإعلان فشل مشروع الحلّ المقترَح للحدود؟
- لماذا تجاهلت الموقف الإسرائيلي وإلقاء المسؤولية على الجانب اللبناني؟
- ما الذي دفعها الى وصف موقف الرئيس نبيه بري بـ«الموقف التعطيلي» للحلّ الحدودي، وبلسان مَن قالت إنّ هذا الموقف قد يؤدّي الى إشعال حرب؟ وهل تقول ذلك للتهويل أم للتخويف والتهديد؟


يبدو أنّ الشخصية الأممية المذكورة تقارب هذه المسألة الحساسة بين لبنان وإسرائيل بعينٍ إسرائيلية. ويشهد أكثر من سياسي لبناني احتكّ معها في بعض الامور والقضايا، على أنها تقارب المسائل والملفات الحساسة بخلفية شخصية مستفزّة، لا تنسجم مع الموقع الوظيفي الذي تشغله في منظمة دولية يُفترض أنها حيادية!


بناءً على ما قالته تلك الشخصية واتّهامها لرئيس المجلس، فبالتأكيد أنّ موقف بري هو موقف تعطيلي للحلّ الحدودي ولكن ربما فاتها أن تقول إنه موقف تعطيلي للحلّ الإسرائيلي. وهو ما تبدي بداية في أزمة الجدار الإسمنتي الذي سعت إسرائيل الى بنائه في نقاط حدودية متنازَع عليها مع لبنان، بحيث تتقدّم بضع سنتيمترات أو أمتار على خط الحدود على البر، تمكّنها من السطو على كيلومترات في البحر. ولبنان يومها رفض محاولة السطو الإسرائيلية هذه وقرّر التصدي لها حتى ولو أدّى ذلك الى إشعال حرب. ويومها أيضاً اتّخذ مجلس الدفاع الأعلى قراراً بمواجهة الخرق الاسرائيلي ولو بالنار. وفحوى هذا القرار نقله مرجعٌ عسكري كبير بصورة رسمية الى ضابط رفيع في الجيش الاميركي. كما أنّ هذا الخرق ومحاولة إسرائيل تجاوز نقاط التحفّظ، كشف عنهما الرئيس بري أمام البرلمانات الإسلامية في طهران منتصف كانون الثاني الماضي، بتأكيده موقف لبنان بعدم السماح لإسرائيل ببناء جدار على الحدود الجنوبية اللبنانية الفلسطينية، وفي أراضٍ متنازَع عليها، هي أصلاً ضمن الحدود التي يعتبرها لبنان حدودَه».

كيف هي الصورة الآن؟
من الطبيعي ألّا يعطي الرئيس بري وزناً أو قيمة لأيِّ اتّهام يلصق بموقفه من الحدود، ويصفه بالتعطيلي أو غير ذلك، فذلك لا يغيّر في جوهر موقفه الثابت والقائل بسيادة لبنان الكاملة على ارضه ومياهه دون أيّ انتقاص من حبّة من ترابه، أو قطرة من مياهه، ودون أيّ مسّ بثروته النفطية والغازية في البحر، التي تحاول إسرائيل أن تسطو عليها، فيما هي ملك حصري للبنان وأجياله القادمة.

أين المكمن الحقيقي للخلاف؟
يؤكد بري «الخلاف بين لبنان وإسرائيل ليس فقط على ما يُسمّى «البلوك 9»، بل إنّ الخلاف أوسع ويشمل ما يُسمى «البلوك 8»، الذي هو اكثر اهمّية من البلوك 9، وهو على مساحة بحرية تبلغ على الاقل نحو 860 كيلومتراً مربعاً.


هنا يستطرد بري فيشير الى أنّ الانسجامَ بين سياسة الولايات المتحدة «الترامبية» وسياسة إسرائيل «النتنياهوية»، وصلت إلى حدّ أنّ الإسرائيليين أرادوا أن يبنوا جداراً على الحدود، تماماً كالجدار في الأراضي الفلسطينية المحتلة. هم يستطيعون أن يبنوا جداراً في الأرض المحتلة، لكن أن يبنوا جداراً على سنتمتر واحد من أرضنا، فهذا أمر غير مقبول، ومجلس الدفاع الأعلى في لبنان اتّخذ قراراً بأنه في حال أقدمت إسرائيل على بناء الجدار في أيّ قطعة من أرضنا فسيُصار إلى التعامل معه بالنار.


ويذكر بري «أنني ما يزيد على الخمس سنوات طالبت بأنّ تُقدم الأمم المتحدة، بمؤازرة اليونيفيل على ترسيم الحدود البحرية كما رسّمت الخط الأزرق عند الحدود البرية. إسرائيل تتجاهل هذا الامر، والأمم المتحدة لم تكن موافقة عليه، وطلبت مساعدة الأميركيين، وقد طلب الامين العام السابق للامم المتحدة السيد بان كي مون منّي شخصياً بأن يكون هناك اتّصالٌ مع الاميركيين، ففعلت ذلك، فتمّ تكليف السفير فريدريك هوف من قبل الأميركيين، وأثناء عمله الذي كان متقدِّماً في إعطاء حقّ لبنان، جرى تغييرُه بشكل مفاجئ، وعُيّن مكانه شخصٌ آخر هو آموس هوكشتاين، المعروف عنه أنه يقضي فصل الصيف من كل عام في إسرائيل. وبدل أن يتابع العمل أخذ يماطل في كل زيارة يقوم بها إلى لبنان».


ويشير بري الى «أننا في نهاية المطاف اتّفقنا على أن تُعقد جميع الاجتماعات في الناقورة، وفق تفاهم نيسان العام 1996، أي أن يحضره ضابط إسرائيلي وضابط لبناني وضابط من الأمم المتحدة، وذلك تحت راية الأمم المتحدة. وبحضور مندوب أميركي لتسهيل التفاهم. فتبيّن في ما بعد، أنّ إسرائيل تريد أن تنهي الأمر في البر، ولكنها لا تريد أن تبدأ في البحر. أما نحن في لبنان فقد رفضنا أن يكون هناك اتّفاق في البرّ وحده من دون البحر، نحن نريد سلّة واحدة، وأن يكون التنفيذ برّاً وبحراً».


وقال بري إنّ الوضع دخل مرحلة جمود الى أن أتى أخيراً اقتراحٌ أميركي بأنّ إسرائيل على استعداد لحلّ متكامل في البر من الجدار حتى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وكذلك في البحر. على أن تتمّ المحادثات في الناقورة، وتحت علم الأمم المتحدة. وهذا الاقتراح جاء بعد اجتماعٍ عقدَه مسؤول أميركي مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في إسرائيل. وقد تمّ إبلاغي بهذا الاقتراح واعتبرته إيجابياً وقابلاً للنقاش، وقد ابلغنا موقفنا ومقترحاتنا الى الاميركيين ونحن الآن بانتظار الجواب منهم.


يختم بري «هذه هي صورة الوضع بالكامل حتى الآن، قدّموا اقتراحاتهم، وقدّمنا اقتراحاتنا، ونحن ننتظرهم، وحتى الآن لا جديد يُذكر على الإطلاق».