بعد أشهر من القطيعة والعتاب، عادت القنوات سالكة بين المختارة والمملكة العربية السعودية. الزيارة كان يجب أن تحصل في تشرين الأول 2017. رفض وليد جنبلاط تلبيتها حينها، لأسباب سياسية وتموضعية. استشف حينها منحى تصعيدياً، ومحاولة لإعادة إحياء اصطفافات عمودية سابقة. تحت شعار رفض سياسة المحاور، فضل جنبلاط البقاء في لبنان وعدم الذهاب إلى السعودية. وأكثر، عقد اجتماعاً ثلاثياً مع الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري في كليمنصو، للبحث يومها في كيفية تحصين لبنان والحفاظ على التسوية القائمة، ومنع حصول أي انفجار سياسي. شكّل جنبلاط في حينها مظّلة لتسوية الحريري. تلقّى بصدره ما كان يضع رئيس تيار المستقبل في موقع لا يريده، فكانت الخلاصة أنه إذا ما سئل الحريري عن تنازلاته أجاب: "لا يمكنني المواجهة وحيداً، جنبلاط يرفض، وبري أيضاً، وأي تصعيد قد يؤدي بي إلى العزل وتكرار تجربة إقالة الحكومة لمصلحة تشكيل حكومة برئاسة نجيب ميقاتي".

نزل الغضب السعودي حينها على جنبلاط. بعدها بأسابيع قليلة جاءت استقالة الحريري من الرياض، لتثبت نظرية جنبلاط، الذي استمر حريصاً على التسوية. كانت تلك أكثر الحقبات المتردية في العلاقة بين آل جنبلاط والسعودية، استتبعها رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي بسلسلة تغريدات ونصائح، تنتقد الحرب في اليمن، وتخصيص شركة أرامكو، ومواقف أخرى زادت الانزعاج السعودي. كانت حسابات جنبلاط تتخطّى المرحلة الآنية. في الوقت نفسه، لم يكن الحريري يسلم من تغريداته، صوّب عليه كثيراً، وعلى الثنائية التي تحكم التسوية، فكان أكثر المتضررين منها، لكنه لم يذهب إلى الإنقلاب عليها أو الاستناد إلى قوة خارجية لتبديدها.

كان جنبلاط يقرأ ما بين السطور، ويوازن خطواته على إيقاع التطورات الاقليمية والدولية. فضّل الغضب السعودي بالمعنى المجازي على أي مغامرة في الداخل. ولطالما كان يؤكد حرصه على العلاقة مع السعودية، ولكن ليس في إطار سياسة التجاذب والمحاور. ولا يزال على موقفه الداعي إلى تحييد لبنان عن صراع المحاور، لأنه غير قادر على احتمال الانقسامات السياسية. أطلق ذات مرّة موقفاً بأنه لن يزور السعودية إذا كان هدف الزيارة إعادة إحياء منطق الانقسام السياسي والجبهات المتقابلة.

تحرّكت قنوات اتصال عديدة بين جنبلاط والسعوديين. قاد الاتصالات النائب وائل أبو فاعور، مع السفارة في بيروت والمسؤولين في الرياض. طويت صفحة مقاطعة السفارة لكليمنصو، فتجاوز الطرفان عدم إجراء السفير وليد اليعقوب زيارة تعارفية بحكم العرف إلى جنبلاط، ليزوره بعدها، القائم بالأعمال وليد البخاري مسلّماً إياه دعوة للمشاركة في حفل افتتاح جادة الملك سلمان. كسرت القطيعة. التقى جنبلاط الموكل بالملف اللبناني نزار العلولا، وكان اللقاء إيجابياً. أعطي انطباع في حينها بشأن الخلوة بين الموفد السعودي وكل من جنبلاط والحريري وجعجع، بأن أيام الود قد تعود. لكن جنبلاط بقي على موقفه المنفتح على الجميع، ومصراً على أنه حليف نهائي لبري.

منذ ذلك اللقاء نشطت الاتصالات على خطّ توجيه دعوة سعودية إلى جنبلاط لزيارتها. كان جنبلاط قد أبلغ قنوات التواصل بأنه لم يقصد الإساءة إلى السعودية، والمواقف التي أطلقها كانت حرصاً عليها، وبأنه جاهز لتوضيح وجهة نظره حين يحصل لقاء مباشر. تلقّفت الدوائر السعودية خطوة الزعيم الدرزي. هدأت النفوس، وتأطرّت "التوجهات". جنبلاط يريد مظلّة محلية وخارجية لنفسه ولزعامة تيمور، والسعودية تريد تثبيت العلاقة مع الحلفاء، ووقف جنبلاط لتصويباته. وعلى الإثر أنجزت التحضيرات لتحديد الموعد.

هي الزيارة الأولى التي يجريها جنبلاط إلى السعودية منذ العام 2015. وهي الزيارة الأولى لتيمور رئيساً للقاء الديمقراطي. وكأن المراد قوله إن إطلالة تيمور الخارجية الأولى وهو في النيابة ورئاسة التكتل كانت إلى السعودية. الرمزية تعني كثيراً، وأساسها استمرار العلاقة بين المختارة والسعودية منذ أيام كمال جنبلاط مع الملك فيصل، والأمير حينها عبدالله بن عبدالعزيز. في الزيارة، التقى جنبلاط ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان والعلولا. وتؤكد المصادر أن اللقاء كان ممتازاً، وتخللته إيجابية استثنائية ظهرت في حفاوة اللقاء، وحجم الاهتمام الذي بدا من المسؤولين السعوديين.

شرح جنبلاط وجهة نظره، وقدّم قراءة وطرح أسئلة بشأن الأوضاع المحلية والإقليمية. لم تدخل المباحثات في التفاصيل اللبنانية، ولا حتى في عملية تشكيل الحكومة. لكن جنبلاط استشرف في قراءته بعض التحولات، مقابل تلقيه دعماً سعودياً معنوياً غير محدود، مع تأكيد الالتزام السياسي والأخلاقي بدعم لبنان، بالإضافة إلى الاتفاق السياسي على العناوين العريضة، بدون الذهاب إلى تأسيس جبهات مضادة. وسمع جنبلاط كلاماً عن حرص سعودي على العلاقة معه وعلى موقعه، مع رفض أي محاولة حصار قد يتعرّض لها. استعاد جنبلاط العلاقة بالسعودية، بدون التفريط بعلاقاته الداخلية. قبل تلبية الدعوة كان اللقاء مع وفد من حزب الله، الذي جرى خلاله تثبيت العلاقة وتعزيزها وتحديد قناة اتصال دائمة بين كليمنصو وحارة حريك. وهو الدور الذي يستعيده جنبلاط. ويحرص على استمراره فيه.