لم يعد الرئيس دونالد ترامب دخيلاً أو طارئاً على السياسة. لا يجوز إتهامه بعد الآن بأنه يحكم أميركا بعقلية المقاول ورجل الاعمال. فقد أثبت بالأمس أنه واحد من أبرع رؤساء مجلس إدارة الولايات المتحدة الاميركية التي هي في الاصل وفي الجوهر شركة مساهمة، بل واحدة من أنجح الشركات، (المتعددة الجنسيات ) ، التي انتجها الغرب في القرنين الماضيين.

خلال الساعات والايام المقبلة، ستحلق شعبية ترامب عند الاميركيين، المرتفعة أصلا الى ما فوق الاربعين بالمئة، وهو معدل لم يبلغه أقوى الرؤساء الاميركيين في مستهل عهدهم. وليس من المستبعد ان يضمن  الرئيس الاميركي المنبوذ من قبل غالبية الجمهور الاميركي اليوم، فوز مرشحيه في الانتخابات النصفية للكونغرس هذا الخريف، وفوزه بولاية ثانية في خريف العام 2020، إذا ما نجح الاتفاق الاميركي الكوري الشمالي، وتحول الى قاعدة عمل تعتمدها أميركا في مقاربتها لبقية ملفات السياسة والتجارة الخارجية.

من التلويح بحرب نووية وتبادل التهديدات والاهانات والشتائم الشخصية، الى التوقيع على واحد من أهم الاتفاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين، الذي يطوي صفحة الحرب الكورية نهائيا، ويؤسس لمصالحة، وربما، لإعادة توحيد شبه الجزيرة الكورية، على غرار  إعادة توحيد المانيا :  ترامب المغفل، الفارغ ، الازعر، يصنع التاريخ ، ويكتب مع كيم جونغ أون ، حفيد القائد المؤسس لثورة كوريا الشمالية، واحداً من أهم فصوله المعاصرة.

بات من الصعب التندر على الرجلين اللذين كانت حتى الامس صفتهما الرئيسية هي الحماقة، واللذين كانت (ولا تزال ) كلماتهما وحركاتهما وتعابير  وجهيهما تعكس ليس فقط ضحالة ثقافتهما وسوء تربيتهما ، بل عدم إتزان شخصيتيهما: هما الآن أهم زعيمين سياسيين ، وقد يجري ترشيحهما لجائزة نوبل للسلام.. إذا لم يظهر أي دليل ملموس على أنهما تواطآ في الخفاء على كتابة نص تلك المسرحية الدرامية المثيرة التي حبست أنفاس العالم أجمع  طوال الاشهر الماضية ، قبل ان يسدل الستار على نهايتها السعيدة.

على قاعدة هذا الاتفاق الاستراتيجي،  تدخل السياسة الدولية في مسار  مختلف، ملتبس، مفاجىء. لا دليل فيه سوى الشتائم التي يكيلها الرئيس الاميركي الى قادة العالم . واللائحة هنا تستثني الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحده ، لكنها تشمل جميع زعماء الدول ، بدءا من  الاقرب الى  أميركا ، كندا والمكسيك  وصولا الى الصين واليابان وألمانيا .. مرورا طبعا بالدول العربية والاسلامية التي يزدريها،وعلى رأسها طبعا إيران التي إتهمها بدعم الارهاب وتصديره، وسوريا التي  ألصق برئيسها  صفة الحيوان.

ليس من أولويات لهذا المسار الذي إفتتحه ترامب بلسانه السليط وعقله المتفلت، وحقق من خلاله مكاسب سياسية واقتصادية مهمة تغري  الجمهور الاميركي الإنعزالي، الذي يكاد يقارب نصف عدد السكان الاميركيين. لكن إيران تبدو الآن على رأس اللائحة. فهي البلد الوحيد الذي تحفّظ على الاتفاق الاميركي الكوري الشمالي، والذي خسر  في هذا الاتفاق غطاء سياسياً ، وحاجزاً معنوياً، وشريكاً عسكرياً مهماً ..هذا فضلا عن أن السلوك الذي تتبعه القيادة الايرانية لا يختلف كثيرا عن سلوك الرئيس كيم جونغ أون ، الا في أن الاخير لم يحاول التوسع في دول الجوار الكوري ولم يشكل مليشيات رديفة لقواته في تلك الدول، ولم يعلن السيطرة على أربع عواصم لهذه الدول.

سياسة الابتزاز النووي التي اعتمدها كيم، هي التي جلبت الرئيس الاميركي الى طاولة المفاوضات، للتوقيع على اتفاق فك الحصار عن كوريا الشمالية ووقف تهديد نظامها وشعبها بالقوة العسكرية. ربما تتجه إيران نحو هذا الهدف. هي في الاصل لم تطلق برنامجها النووي إلا  لكي  تستدعي الاميركيين الى طاولة التفاوض، وقد تمكنت من ذلك أكثر من مرة ، آخرها في العام 2015، عند التوقيع على الاتفاق النووي الذي مزقه ترامب أخيراً، وأطلق سيلا من الشتائم على موقعيه ومنظريه ومنفذيه، وتوعدهم بالويل والثبور وعظائم الامور على غرار ما فعل في الاشهر الماضية مع حماة الرئيس الكوري الشمالي ورعاته ومريديه.

لعل قمة سنغافورة أطلقت العد العكسي لقمة اميركية إيرانية تجمع ترامب والرئيس الايراني حسن روحاني،  ويحضر الرئيس بشار الاسد في كواليسها الخلفية وربما في مصافحاتها الختامية... وإن كان الشرق الادنى ما زال يحتمل، أكثر من الشرق الاقصى، المزيد من الالعاب النارية، التي تساهم في صياغة اتفاق إستراتيجي أميركي  إيراني جديد.