دعوة المجلس الاقتصادي الاجتماعي للأحزاب لنقاش اقتصادي وطاولة حوار اقتصادية ذكّرتني بمقال كنتُ قد كتبتُه في العام 2016 تحت عنوان «من الميثاقية السياسية إلى الميثاقية الاقتصادية» ودعوتُ فيه إلى إطلاق طاولة حوار اقتصادية يتمّ فيها التعهّد بالقيام بالإصلاحات الضرورية، واعتبرتُ حينها أنّنا «نحتاج إلى ميثاقية من نوع آخر تُضاف إلى الميثاقية السياسية، وهي ميثاقية ضدّ الفساد، حيث تتعهّد كلّ الأطراف بموجبها، بمكافحة الفساد والاحتكار، وبنعمٍ كبيرة لتطبيق الشفافية، لإعادة الثقة إلى المواطن في الدرجة الأولى، فتطبيق الميثاقية السياسية اليوم، إنْ لم يكن هدفها الأوحد إعادة الثقة بالدولة ومؤسساتها، تكون ميثاقية ناقصة».
 

إنّ دعوة المجلس الاقتصادي الاجتماعي اليوم هامّة وأساسية، كما كلّ حوار اقتصادي في البلد، وتَشارُك الأحزاب أساسي لوضعِ رؤى مشترَكة لتوحيد الهمّ الاقتصادي والتوقّف عن التجاذبات، إلّا أنّ أيّ حوار أو مؤتمر، أو ورشة عمل أو دراسة اقتصادية أو مقرّرات وزارية تعيد ترداد نفسِ الكليشهات والشعارات على غرار: الاقتصاد المنتج لا الريعي، زيادة النمو، خلق فرص عمل، وتحفيز الاستثمارات والحكومة الإلكترونية وطبعاً موضة الموسم الرائجة اليوم: «مكافحة الفساد، والإصلاح» وهذه الشعارات لن تقدّم ولن تؤخّر بل ستشكّل خيبة أمل فعلية للبنانيين الذين أحوالهم المعيشية تتراجع يوماً بعد يوم من دون أفق، اللبنانيين الذين يسمعون هذه التعابير في كلّ بيان وزاري وفي كلّ انتخابات، حتى فقدوا الثقة ووصلوا إلى قناعة راسخة بأنّ التغيير بات مستحيلاً، وبالتالي، المطلوب اليوم الغوص في التفاصيل والاتفاق بين كلّ الأحزاب على أدقّ التفاصيل، تشريح المشكلة والاتفاق على كلّ خطوة ومرحلة، فتنافسيةُ لبنان لم تعد تتحمّل المزيد من التلكّؤ.


يجب أن تتفق الأحزاب على الاعتراف بأنّ ما يحصل في المرفأ مثلاً غير فعّال وتنافسي ويحتاج إلى «نفضة» أساسية، يجب الاتّفاق على أنّ صادراتنا بخطر وأنّ هناك ضرورة للقيام بإجراءات عاجلة وجذرية، الاتفاق على أنّ سياستنا الضريبية تُعاني ازدواجية عبر الإبقاء على الرسوم المتنوّعة وطوابع أميرية والضريبة على القيمة المضافة في الوقت عينه، الاتفاق على أنّنا تحوَّلنا إلى مقبرة للمستثمر عبر الإبقاء على الاحتكارات والخدمات الأغلى في المنطقة وأسعار تذاكر السفر الأغلى من بين البلدان المجاورة.


يجب التشمير على الساعدين والنزول على الارض، الاطلاع على ما يجري على ارض الواقع، فالبدء بالحكومة الالكترونية مثلاً لن يجدي نفعاً في بلد إجراءاته معقّدة ومازال يعتمد لصق الطابع الاميري، وتدور المعاملة في الاقسام وتختفي وتظهر تبعاً للمحسوبيات والواسطة والحلوينة، يجب تدوين كلّ مرحلة من مراحل الإجراءات في كافة الرخَص والتوافق الشجاع على اختصارها خدمةً للاقتصاد التنافسي والمنتج،


يجب الاستفادة من الدول الناجحة ليس عبر الشحادة والهبات، بل عبر المعرفة والـknow how، استقدام معرفتهم وخبرتهم في الإجراءات، هذه الاجراءات التي جعلت من بلدانهم الاكثرَ تنافسية وصداقة للمستثمر، ألا يمكننا التعلّم من دبَي مثلاً كيف يتمّ إخراج المستوعب من المرفأ بغضون ساعات، أو كيف يتمّ إنشاء وإغلاق شركة بسهولة.


يجب أن تملك الاحزاب اليوم شجاعة الاعتراف والاتفاق على الخصخصة بعد أن فشلت الدولة لأكثر من 50 عاماً في كلّ مجال الإدارة، ألا تكفي هذه الفترة الزمنية لنعلنَ فشلَ القطاع الرسمي الذي يجب ان يكون جهةً رقابية لا اكثر، ألا يجب ان تكون لنا الشجاعة لنقتنع بأنّنا لا نملك الوقت الكافي للتغيير لأننا على شفير الهاوية، على الأحزاب البدء بمناقشة خيار الخصخصة بعِلمية وشفافية ومن دون أحكام مسبقة prejudice ، للوصول الى نتائج مثمرة وكي لا تضيع في بوصلة الاتّهامات المتبادلة.


الأحزاب التي انتخَبها الشعب اللبناني اليوم، هي أمام مسؤولية تاريخية للاتفاق في الاقتصاد، للتعالي عن التجاذبات، فالوضع لم يعد يحتمل، الشعارات التي أطلِقت في الانتخابات تحتاج الى ترجمة على ارض الواقع، تحتاج الى خطط ورؤية، وحتى اليوم لم يقدّم أيّ حزب بعد رؤيةً شاملة عن السبيل الى تحويل لبنان جنّة استثمارية تنافسية. يجب ان تملك الاحزاب الشجاعة للإشارة باليد الى الفاسد، الى الادارة الفاشلة، الى القطاع الفاشل، والعمل سويّاً لإيجاد السبيل الأفضل لإصلاحه، لا أن تصبح هذه الأمور أداةً سياسية يستعملها الأفرقاء للحصول على تأييد أكبر.


فمثلاً في مرسوم التجنيس، تحوّلت كلّ الأحزاب السياسية إلى ملائكة تمشي على الأرض، وأصبح الرئيس هو المتّهم الأكبر، أصبحت الأحزاب التي واكبَت أكثر مِن مرسوم تجنيس، المبشّرَ بالوطنية والحريصَ على بقاء الوطن، وتحوَّل الرئيس إلى المتهم الأكبر، فيتحوّل كلّ موضوع إلى وسيلة للتراشق والاتّهمام، وتغيب الوقائع والأرقام والتاريخ. إذا أردنا أن نعالج مواضيعنا الاقتصادية بنفس العقلية والذهنية، فعلى الدنيا السلام، إنّ كلّ حزب اليوم لا يملك خطةً واضحة المعالم بالتفاصيل، فليتوقّف عن استعمال الشعارات الاقتصادية والإصلاحية.


لبنان يحتاج اليوم الى سلّة إجراءات جديدة، إلى إصلاحات ضريبية، نحتاج أن نقنع العالم بأنّ هذا العهد مختلف وأنّ دماً جديداً دخل الحياة السياسية، وأنّ هناك فريقاً سياسياً همُّه تسجيل الإنجازات، وحتى اليوم لا يملك أيّ حزب سياسي رؤيةً واضحة المعالم وخطةً مفصّلة للتنفيذ، فكيف سيكون الحوار الاقتصادي مع الأحزاب خطوةً فاعلة ؟ أشعر بأنني أعرف مسبقاً ما ستكون مقرّرات هذا الاجتماع، فنحن نقرأ الشيءَ نفسه منذ ثلاثين عاماً حتى اليوم، ولم يتغيّر أيّ شيء.


نشجّع بالطبع هذا الحوار بل نطلبه ليكون انطلاقةً أساسية ولكن نطلب حواراً هادفاً وتوصياتٍ واضحة وجدولاً زمنياً محدّداً والدخول في تفاصيل الإجراءات وكيفية تغييرها، والأهمّ الهروب من الشعارات.