لا يكاد شبح التوطين يختفي حتى يعاود الظهور مجدداً من بوابات مختلفة، إذ يعيش هذا البلد الصغير بعدما غصّت مساحته الضيقة بما يقارب المليون ونصف المليون نازح سوري على إيقاع هاجس التوطين. وبعد تجاوز لبنان المخاوف التي رافقت مقررات مؤتمر سيدر، ها هو يعاود اليوم رفع مستوى الأدرينالين من الشبح نفسه، وذلك من بوابة المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان.

"هناك إرادة دولية لإبقاء النازحين في لبنان، ونحن مصمّمون على كسرها"، قالها وزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل. وأشار إلى أن المفوضية "تتحدّى بشكل واضح سياسة الحكومة اللبنانية"، مهدداً بالتصعيد، الذي نُفذت أولى خطواته يوم أمس عبر إصدار تعليماته لإيقاف طلبات الإقامة لصالح المفوضية العليا لشؤون اللاجئين.

تؤكد مصادر الخارجية لـ"ليبانون ديبايت" أنه "برز للمرة الثانية خلال التحضير لعودة ما يقارب 3000 نازح سوري من مخيمات عرسال إلى منطقة فليطة في القلمون الغربي السوري إصرار المفوضية على تخويف السوريين من العودة الإيجابية على الرغم من استقرار الحالة الأمنية في كثير من المدن السورية وعودة الحياة الطبيعية إليه. هذا الأمر يؤكد مخاوفنا من وجود سعي جدي للتوطين عبر زرع الخوف والتردد في قلوبهم وتعمّد عرقلة أية جهود جدية لعودتهم. وهو الأداء الذي دفع الخارجية اللبنانية الى إعادة النظر في عمل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في هذه المرحلة الحساسة". 
وتذكّر مصادر الخارجية أن هذا الأداء حصل في السابق أثناء عودة حوالي 500 نازح سوري من شبعا إلى بيت جن السورية، وهو الأمر الذي حذرت منه الخارجية في بيانات لها كانت بمثابة تنبيه للمفوضية.

في المقابل، تؤكد مصادر المفوضية أنها تحترم دائما القرارات الفردية للاجئين بالعودة إلى ديارهم، ولا تعارض العودة التي تتم بناء على قرار الأفراد، "فهذا حقهم". ويتمثل هدف المفوضية في إيجاد حلول مستدامة للاجئين خارج لبنان، في شكل إعادة توطين في بلدان ثالثة، والعودة إلى الوطن بما يتماشى مع المعايير الدولية.

وتلفت المفوضية في حديثها لـ"ليبانون ديبايت" أنه عندما يعبر اللاجئون عن نية العودة إلى ديارهم، تحاول المفوضية متابعة تحضيراتهم. على سبيل المثال، إذا كانوا يفتقرون إلى أي وثائق مهمة، تساعدهم المفوضية في الحصول عليها، مثل شهادات الميلاد والزواج والوفاة التي تثبت أن مثل هذه الأحداث وقعت في المنفى، أو السجلات المدرسية، وكل ما يساعد اللاجئ في إعادة تأسيس حياته في دياره، والوصول إلى المدارس والخدمات. "هذا العمل هو مسؤولية عالمية للمفوضية تقوم على أساس المعايير الدولية، وشيء نفعله في جميع حالات اللاجئين كنشاط أساسي"، بحسب هذه المصادر. 

كما أن إجراء مقابلات مع اللاجئين الذين يعتزمون العودة يساعد المفوضية في متابعة وضعهم في سوريا. وهذا أيضا جزء من المسؤولية العالمية للمفوضية، لإيجاد حلول مستدامة، ومرافقة اللاجئين في عملية الاستقرار في الوطن، بحسب المفوضية.

وعن طبيعة الأسئلة التي أثارت هواجس التوطين لدى الخارجية تؤكد مصادر مطلعة أنها لم تتجاوز كونها روتينية تتبعها المفوضية مع النازحين في عدة بلدان لإكمال مهمتها الإنسانية، للتأكد من خيارهم والاطمئنان على حياتهم. ومن الأسئلة التي عُرضت على النازحين "هل تعلم أن المساعدات الإنسانية ستتوقف عندما تعود لبلدك؟ هل تعلم أنك لم تعد تحت رعاية الأمم المتحدة في حال العودة؟ هل تعرف إن كان بيتك موجود أم غير موجود؟ هل سيكون لديك الحماية في بلدك؟"، وغيرها الكثير.

إلا أن تكرار هذه الأسئلة على النازحين أثار المخاوف لديهم ودفع الكثير منهم للتراجع عن قرار العودة، الأمر الذي أغضب الخارجية وبرزت الشكوك لديها ولدى بعض المسؤولين اللبنانيين، بحسب المصادر نفسها.

وبينما يستبعد أهل الاختصاص التصعيد الباسيلي تجاه مؤسسة دولية، لا تستبعد المصادر المطلعة في حديثها لـ"ليبانون ديبايت" أن يذهب باسيل في اتجاه التصعيد كونه لديه الغطاء من الرئاستين الأولى والثانية، لا سيما أن رفع السقف تجاه المفوضية جاء بعد تلقي الوزير معلومات من جهاز أمني تفيد أن المفوضية تحاول التهويل على النازحين لعرقلة عودتهم إلى بلادهم.

من جهته، يؤكد الخبير الدستوري المحامي انطوان سعد أن العلاقات بين وزارة الخارجية والمفوضية ذات طبيعة دبلوماسية وسياسية، والدور الذي تقوم به المفوضية ذو أبعاد انسانية، ومن حق المفوضية طرح هذا النوع من الأسئلة لأن لا معلومات موسعة لديهم عن وضع النازحين في سوريا. وهي اجراءات طبيعية اعتُمدت في جورجيا وفي الموصل أخيراً، في دور كلاسيكي تقوم به المفوضية مع أي نازح في العالم.

وعن صلاحيات وزارة الخارجية في هذا الإطار، يقول سعد إن للخارجية الحق في أن تستدعي المسؤولة عن المفوضية سواء كانت مبعوثة دبلوماسية أو موظفة دولية وهي في الحالتين لديها حصانة، ويمكن للوزارة أن تسجل موقفاً إما عبر إبلاغها إنذار شديد اللهجة، أو إرسال رسالة شديدة اللهجة ايضاً للمسؤولين عنها. وقد تصل الإجراءات لقطع العلاقات مع المفوضية "لكن لبنان أصغر من هذه الخطوة كونها تضر بمصالحه مع المجتمع الدولي. والأرجح أن تتمنى الوزارة على المفوضية عدم زرع المخاوف لدى النازحين، بما يحقق الانسجام بين الموقف السياسي اللبناني والدور الانساني الذي تلعبه المفوضية".