ليلة الذكرى الـ51 لـ «نكسة» 67، غيّب الموت أحمد سعيد، الإذاعيّ الذي لعب الدور الأكبر في تأسيس «صوت العرب» – الذراع الإعلاميّة الضاربة للناصريّة ولتأثيرها الصاعق في العالم العربيّ. برنامجه الشهير «أكاذيب تكشفها حقائق»، بمشاركة الإذاعيّ الآخر محمّد عروق، كان أقرب إلى «حقائق تشوّهها أكاذيب». الترانزيستور، سيّد التعميم في الستينات، كان ينشرها على المدى العربيّ.

وفاة أحمد سعيد في ذكرى «النكسة» كانت دلالتها الرمزيّة بالغة الوطأة، لارتباط اسمه، في اليومين الأوّلين لحرب 67، بـ «الانتصارات العربيّة المجيدة». صحيح أنّه كان يقرأ بيانات عسكرّية لم يكتبها، لكنّ سجلّه وسجلّ «صوت العرب» كانا يشبهان تلك البيانات.

أحمد سعيد موظّف، وهو في أغلب الظنّ كان متحمّساً لدوره. ما عُرف عنه يفيد بأنّه كان مستعدّاً أن يفعل كلّ شيء كي يخدم قضيّة يراها مُحقّة. لكنْ ما العمل إذا كانت هذه القضيّة لا تُخدَم إلاّ بالكذب؟ إذاً نكذب.

أحمد سعيد غاب عن دنيانا. لكنّ ثمّة أحمد سعيد آخر لا يموت إلاّ بصعوبة. إنّه يتجسّد في المبدأ الذي يقوم على خدمة القضيّة بالكذب، وتالياً قلب الهزيمة دائماً وأبداً إلى انتصار. أحمد سعيد هذا، الذي لا يموت إلاّ بصعوبة، رأيناه ثانية في بغداد، مع «الانتصارات» التي كان يحقّقها صدّام حسين ضدّ الأميركيّين. رأيناه بعد حين في لبنان مع «النصر الإلهيّ» وانتهاء «زمن الهزائم». وبالطبع لا يُنسى ما فعله الإعلام الرسميّ السوريّ حين جعل حافظ الأسد «بطل الجولان»، وهو مَن أشرف على خسارة الجولان كوزير للدفاع. هذه ربّما كانت الحالات الأبرز، وإن لم تكن الوحيدة، للأحمد سعيديّة التي تضرب العالم العربيّ.

لكنْ لماذا اشتراط كلّ هذا الكذب لخدمة القضيّة؟ ألا يمكن استبدالها بقضايا تُخدم ببعض الحقيقة وبعض الصدق؟ ثمّ لماذا يُكذَب الكذب الذي لا يصدّقه أحد، مع أنّ المطلوب، نظريّاً، أن يصدّقه الجميع؟

المصدر الأوّل للكذب أنّ المستفيدين من القضايا يفعلون ما لا يُفعل. يشنّون حروباً لا تُشنّ. يقهرون شعوباً وينهبونها على نحو يجعل الكذب ضرورة لتبرير الأفعال - الكبائر. «يمثّلون» هذه الشعوب غصباً عنها، باسم قضاياها. وهم، في النهاية، ينهزمون في حروبهم هزائم مطنطنة.

فهل يبالغ من يقول إنّ القضايا التي تتيح لهم أن يفعلوا هذا باسمها، ينبغي أن تُسحب، هي نفسها، من التداول. ذاك أنّ توسّل تلك القضايا على هذا النحو لم يحصل مرّة أو مرّتين. إنّه الشيء الوحيد الذي يحصل.

الواقع أنّ القضايا التي يجوز كلّ شيء في سبيلها قضايا ميّتة، لا يتبقّى حيّاً منها إلاّ الكذب باسمها ثمّ التعصّب لجثّتها المتهرّئة.

الأمر الآخر، المُفارق، أنّه ليس مهمّاً تصديق الناس في دواخلهم للكذب. الناس المُستعبَدون والمُستبعَدون لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً، أصدّقوا الكذب أم لم يصدّقوا. المطلوب منهم أن يتصرّفوا «كما لو» أنّهم مُصدّقون. أن يتكيّفوا مع الكذب بموجب ما سمّته الباحثة الأميركيّة ليزا ويدين «كما لو». المهمّ ألاّ يكذّبوا الكذب علناً، وأن يتيحوا له أن يمضي بأمان في تعزيز المؤيّدين والأتباع بسلاح فتّاك... لكنْ حين ينكشف الأمر على الملأ وينهار النظام المنتج للكذب انهياراً كلّيّاً ونهائيّاً، تهبّ لنجدتنا ثقافة كاذبة بدورها، تتّهم الأعداء والمؤامرات وتلوذ بكونها ضحيّة. هذا في انتظار دورة جديدة من الكذب يطلقها الأحفاد تيمّناً بالأبناء الذين سبق أن تيمّنوا بآباء ميامين.