يستطيع اللبنانيون أن يتحدثوا عن فضائح فساد كثيرة وأن ينظروا إلى عيون كثير من أركان الطبقة الحاكمة ويقولوا لهم بكل ثقة: «أنتم فاسدون». ولكن «الدارج»، هذه الأيام، هي أن يُقال لهم: «اعطونا الإثباتات... وإلّا فإنكم ستكونون أنتم موضعَ محاسبة»! وهنا يظهر عُمق المشكلة: هل يُتاح للناس أن يخرقوا ستارَ المؤسسات ويحصلوا على المعلومات عن الفساد والفاسدين؟ وهل يُتاح للقضاء وأجهزة الرقابة والمحاسبة أن تقوم بدورها في كشف الحقائق... وإذا فعلت، هل تُتاح محاسبةُ الفاسدين ولو لمرة واحدة؟
 

في المنطق، يحقّ للبريء أن يدافع عن نفسه وكرامته ويمنع الناس من تشويه سمعته، وأن يقول: «كل اتّهام بالفساد من دون دليل لا قيمة له». ولكن، عندما يكون هناك تواطؤٌ بين قوى السلطة، يجري إقفال أبواب المعلومات تماماً، بالتكافل والتضامن.

وعندئذٍ، من أين لأصحاب الشكوك أن يأتوا بالأدلّة والقرائن المطلوبة، وكيف يمكن التمييز بين الاتّهام السياسي والاتهام بجريمة فساد موصوفة؟ وكيف السبيل إلى التمييز ما بين المذنب والبريء؟

هناك تواطؤٌ بين غالبية أركان السلطة اليوم. وهذا التواطؤ هو الذي يتيح لبعضهم ارتكابَ المنكرات بلا خوف من المحاسبة. وفي مراحل سابقة كانت في السلطة قوى تتنافر وتتضارب مصالحُها، فينبري بعضها إلى كشف فضائح البعض الآخر بهدف الاستهداف السياسي والإسكات، لا الإصلاح في غالب الأحيان. فيقوم كل طرف بإبراز المستندات والأدلّة التي تتكفّل بإدانة الخصم. ويردّ الخصمُ باتّهامات مماثلة من العيار الثقيل.

غالباً، يغلق الجميع ملفاتهم بهدف «السِترة». ولذلك، لم يُفتح تحقيق حقيقي في أيِّ ملفٍّ حتى النهاية، وفي الحالات النادرة تمّ اختيارُ «كبش محرقة» صغير وضعيف ليفتدي الكبار.

الناس مقتنعون بوجود كثير من الارتكابات والفضائح. لكنّ القوى السياسية تجنّبت وصول الملفات إلى القضاء وأجهزة المراقبة والمحاسبة، ولو كانت ضدّ الخصوم، لئلّا تكون هناك سابقة وتتكرّر مع الجميع، ما يؤدّي إلى انكشافهم وخراب «وَكْر الفساد» الذي يستفيد منه البعض.

ليس معروفاً إذا كان على اللبنانيين أن يرتاحوا إلى الحال النادرة من التوافق السياسي، بين أركان التركيبة السياسية، أو أن يقلقوا منها، في اعتباره تواطؤاً يقطع الطريق على أيِّ محاولةِ اعتراضٍ حقيقية أو مسعى إلى كشفِ الحقائق.

مثلاً، في بحر الغموض الذي يحوط ملفَّ مرسوم التجنيس، من أين للناس أن يحصلوا على المعلومات الدقيقة، فيما قوى السلطة متوافقة (البعض يقول متواطئة) لإمراره، وفيما هي «تمون» على الإدارات المعنيّة لإقفال الطريق على أيِّ محاولة تشكيك؟

ولماذا انعدامُ الشفافية في هذا الملف منذ اللحظة الأولى؟ ولماذا تمّت «تخبئةُ» الملفّ إلى ما بعد الانتهاء من الانتخابات؟ فالواضح أنّ جميع المعنيّين كانوا في أجواء هذا الملف… ولذلك التزموا الصمتَ تماماً.

وأساساً، هناك مَن يعتقد أنّ التركيبة السلطوية كانت بدأت ملاقاة مرسوم التجنيس بإمرار المادة 49 من الموازنة. لكنّ سقوط هذه المادة سرّع إمرار مرسوم التجنيس أو ربما مراسيم تجنيس متتالية. ولكن، تم التريّث إلى ما بعد الانتخابات، لئلّا تتأثر سلباً قوى السلطة المعنيّة.

وثمّة مَن يقول إنّ هذه التركيبة التي أدارت بعض الملفات بنقص فادح للشفافية في الحكومة الحريرية الحالية، هي نفسها ستدير الملفات في الحكومة المقبلة، ولا شيءَ يدعوها إلى التزام الشفافية. واستطراداً، على سبيل المثال، مَن سيزوِّد المجلس الدستوري المعلومات الدقيقة المناسبة لحسم الطعون الانتخابية، وكشف التجاوزات الانتخابية التي ربما وقعت، بالمال أو استغلال النفوذ أو التلاعب بالصناديق.

البعض يعتقد أنّ سرَّ قوة التركيبة السلطوية القائمة يكمن في أنّ توافقها (أو تواطؤها) مطلوبٌ خارجياً. ولذلك، هي خرجت من أزمة تشرين الثاني الفائت أكثرَ قوّةً ومناعة. وربما هناك مصلحة إقليمية تستدعي وجودَ هذه التركيبة. فمطلوبٌ من لبنان أن يلتزم دوراً معيّناً في ملاقاة الحلول الشرق أوسطية، وخصوصاً على المسارَين السوري والفلسطيني.

ويكمن الخوف على لبنان من استغلال تركيبة التواطؤ اللبنانية لمصلحة خياراتٍ إقليمية معيّنة وفرض استحقاقاتٍ في خضمّ المتغيّرات الديموغرافية والجغرافية التي يشهدها الداخلُ السوري ومناطقُ الحكم الذاتي الفلسطيني، والسيطرة الاقتصادية الإسرائيلية على موارد لبنان والمنطقة.

فليست هناك أصواتُ اعتراض حقيقية وفاعلة حالياً في الداخل اللبناني، ولا أفق لأصوات اعتراضية ذات شأن في الحكومة المقبلة التي يُفترض أن تعيش سعيدةً 4 سنوات كاملة، أي حتى انتهاء العهد. وملامحُ التقارب بين «القوات» والكتائب و«الاشتراكي» حول ملفات معيّنة ليس مكتوباً لها أن تثمر إلّا بمقدار محدود. فحتى إشعار آخر، لكلّ مِن هذه القوى مبرّراته في الاستمرار تحت سقف الواقعية.

فـ«الاشتراكي» نموذج في البراغماتية السياسية، و«القوات» اختبرت في الانتخابات الأخيرة فوائد أن تخوضَ نزاعها السياسي من داخل السلطة، كما اختبرت الكتائب أضرارَ «المقاطعة المطلقة».

وإذ تلتقي اليوم هذه القوى على ممارسة مقدارٍ من الاعتراض في مسائل تعتبرها مثيرةً للقلق كيانياً، فإنّ كلّاً منها يصطدم بسقف الخربطة السياسية وزعزعة الاستقرار «الممنوعة» إقليمياً ودولياً. وعلى الأرجح، لن تطول كثيراً «رفقةُ الطريق».

ولكن، يبقى جوهرياً التفكير في ما يجري تحضيره للبنان، لكي يلائمَ التسويات المرسومة للشرق الأوسط، وخصوصاً في الملفين السوري والفلسطيني. فهل تحظى تركيبةُ السلطة، على علّاتها، بدعمٍ خارجي مطلق لمجرد أنها مستعدّة لمواكبة هذه التسويات؟ وما هي الأكلاف التي سيدفعها لبنان مقابل تغطية هذه التركيبة السلطوية؟