"المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده" (إبن خلدون) 

في أعقاب الانتخابات النيابية الأخيرة صدرت بعض التصريحات عن بعض الشخصيات السياسية المجرِّبة التي لها حضور إعلامي واسع، يتحدث أصحابها عن إنتصارات سياسية وعن تصحيح خطأ تاريخي وعن عودة الأوضاع الى ما قبل 2005، تلك السنة التي تلاقى فيها ملايين اللبنانيين في ساحات بيروت والتي إصطلح على تسميتها بـ"انتفاضة الاستقلال" أو "ثورة الأرز" أو "ربيع بيروت".

من غير الواضح إذا كانت "إنتفاضة الاستقلال" التي تُوِّجت بخروج الجيش السوري من لبنان هي الخطأ التاريخي الذي جرى تصحيحه، أم خسارة المقعد النيابي هي الخطأ المقصود بالتصحيح. أما بشأن العودة الى ما قبل 2005، فمن غير الواضح أيضاً هل هي عودة النواب الذين خسروا مقاعدهم النيابية الى المجلس الجديد أم هي العودة الى المرحلة السياسية والأمنية والإقتصادية والاجتماعية والثقافية التي كانت سائدة قبل 2005؟

مهما يكن من أمر هذه الاحتفالية في استحضار تلك المرحلة، لا بدّ من التساؤل الى ما يرمي الحنين الى التوازنات التي كانت قائمة آنذاك؟

قد لا يجد القارئ الحيادي في تلك المرحلة ما يمكن الاشادة به سوى أمرين إثنين لا ثالث لهما: الأول هو تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي، إذ كانت هي المرة الاولى في تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي تتحرر فيها أرض عربية بالمقاومة، سواء "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" (جمول) بدايةً، أو مقاومة "حزب الله" لاحقاً.

الأمر الثاني هو المقاومة المدنية اللبنانية لوصاية نظام البعث السوري على لبنان، هذه المقاومة التي انخرط فيها ناشطون مدنيون وسياسيون، وصامتون متواطئون يجمعهم الرفض لتلك المرحلة، ونخبة من رجال الفكر والأدب والصحافة وطلاب الجامعات وأحزاب وحركات وجبهات سياسية متنوعة، إضافة الى الكنيسة المارونية عبر بكركي التي لعبت دوراً طليعياً في كسر الصمت حول قضم لبنان وتزوير تاريخه، وذلك قبل أن يفجر استشهاد الرئيس رفيق الحريري المكبوتات اللبنانية والامتعاض اللبناني العام من سياسات تلك المرحلة.

في تقويم مرحلة ما قبل سنة 2005، قد لا يختلف إثنان أنّ لبنان كان تحت الوصاية السورية، بمباركة عربية ودولية، أميركية بالتحديد، حيث مورست كل تقاليد الاحتلال وأدبياته، من مصادرة الحياة السياسية عبر وضع اليد على الرئاسات الثلاث والمجالس النيابية والوزارات والادارات والمحاكم، وعبر وضع القوانين الانتخابية الجائرة والاستنسابية وتركيب طبقة سياسية خاضعة وطيّعة خارج الأطر الدستورية، وتكريس غلبة طوائف على أخرى، واستنساخ قيادات سياسية لا تعبّر عن هموم أغلبية الشعب اللبناني وتطلعاته. كما تمّ وضع اليد على السلطة القضائية فجرى تركيب ملفات قضائية في حق سياسيين ومدنيين، عدا التوقيفات التعسّفية التي أدانت البريئين وبرأت المرتكبين. ولعلّ أخطر ما شهدته تلك المرحلة، إدخال تقاليد الاعتقال السياسي والنفي الى الخارج والاغتيال السياسي والجسدي للمعارضين.

الأسوأ من ذلك كله، إنتشار المعتقلات والمقارّ والسجون التي مورست فيها أقسى أنواع التعذيب والقتل، إضافة الى الخطف والإخفاء خلف الحدود، مما يذكّر بممارسات أعتى الحركات العنصرية عبر التاريخ، قديمه وحديثه.

وجرى تقطيع أوصال الخريطة اللبنانية وشراييها، بالحواجز والخوف والحذر من التنقل بين المناطق، فاتسعت حركة التهجير والهجرة، وخلت أغلبية المناطق من عناصرها الشابة التي لا تزال الى اليوم تعاني من تداعيات هذا النزوح.

في السياسة، جرت عمليات تدجين وإخضاع وإهانة وإذلال لغالبية السياسيين الذين تفننوا في إسترضاء الأوصياء، فانتظروا صفوفاً على أبوابهم، وأغدقوا عليهم الهدايا والاموال، وتسابقوا على نيل الحظوة لديهم، فأقاموا لهم الولائم ورفعوا لهم أقواس الزينة، وتباهوا بالقرب منهم، وسرت شائعات كثيرة عن علاقات ملتبسة، وسادت مقولة الواقعية السياسية والقدر الذي لا ردّ له، "فالعين لا تقاوم مخرزاً"، و"اليد التي لا تقدر عليها قبّلها وأدعُ لها بالكسر"، و"مين ما أخد أمنا بيصير عمنا". فازدهرت بذلك ثقافة التملق والخبث والكذب كما في كل البلدان المحكومة بالقمع والديكتاتورية. وتوزعت أوكار المخابرات والتجسّس والتنصت على كل المدن والقرى والأحياء والمنتديات كما ازدهرت مواسم الوشايات.

وتمّ وضع اليد على المرافق العامة، فنشطت عمليات التهريب عبر المرافئ والمطارات والحدود، في نهب منظم للثروات الوطنية وعبر الصفقات والعمولات، كما سُيِّبت الحدود أمام كل طارئ ومخرّب ودخيل، ونشطت عمليات تفقيس التنظيمات السياسية والدينية المتطرفة للإستعمال عند الحاجة في تخويف اللبنانيين عامة والمطالبين بالسيادة والحرية في وجه خاص. واستُخدم لبنان كصندوق بريد دامٍ لإمرار الرسائل الاقليمية والدولية، وهجِّرت البعثات الديبلوماسية الى البلدان المجاورة، وشُرّعت التبعية للخارج، وأُغرقت البلاد بمئات الآلاف من المجنّسين.

واعتمدت فلسفة التطييف والتقسيم والتجزئة والتفتيت للنقابات والاتحاد العمالي والاحزاب والطوائف وكل ما يساهم في تلاقي اللبنانيين، وازدهرت الخطابات الخشبية والتكرار الممل عن الأخوّة والصداقة والشعب الواحد في دولتين وتلازم المصائر والمسارات والوجود الشرعي والموقت، في الوقت الذي مُنع فيه اللبنانيون من مراجعة تجاربهم المدمرة في الحرب الاهلية، كما مُنعوا من تنقية ذاكرتهم الوطنية الجامعة، إذ تمّ إقناعهم بإستحالة العيش من دون إدارة خارجية.

وبعد، هل هناك ما يغري بالحنين الى تلك المرحلة ليتمّ استحضارها؟

وبعد، أما آن للبنانيين أن يطووا صفحات الماضي وأن يتعلموا من تجاربهم، وأن يتصالحوا مع فكرة الوطن المستقل بعدما اختبروا كل أنواع الوصايات والرهانات القاتلة، وبعدما اختبروا أشكال الغلبة الطائفية عبر الاستقواء بالخارج القريب والبعيد، وبعدما ذاقوا كل أنواع العنف والالغاء؟

ليطمئن الذين يستحضرون تلك المرحلة، فلا يزال الكثير من تقاليدها وأدبياتها حاضراً وبقوة في أيامنا هذه، من تبعية للخارج، ومن استبدال وصايات بأخرى ومن هدر وفساد وسطو على المال العام ومن نهش للدولة. لا تزال السياسة تقنيات نهب ومحاصصة، ولا يزال اللبنانيون يموتون على أبواب المستشفيات، ويتزاحمون على أبواب السفارات، وما لزال هتافات "بالروح بالدم..." تلعلع في الشوارع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، ولا تزال المعابر البريّة سائبة، ولا يزال اللبنانيون يهاجرون ليحلّ محلهم مجنّسون جدد، في صمت رسمي ملتبس ومريب، ولا تزال أزمات البلاد أكبر من شاغلي الكراسي والعمل يجري على قدم وساق لتعميق الهوة بين اللبنانيين.

في العودة الى سنة 2005، الى "إنتفاضة الاستقلال"، فإنّ ما قبلها هو الذي صنعها، وإذا كان جورج نقاش قد قال قديماً "إنّ نفيين لا يصنعان أمّة"، فـ2005 أثبتت أنّه بإستطاعة النفيين أن يلتقيا في ساحات بيروت لصناعة تاريخ أمّة.

تلك السنة لم تكن سوى إنتفاضة الناس ضدّ إستباحة كراماتهم وأعراضهم وبيعهم في أسواق النخاسة في العواصم القريبة والبعيدة. انتفضوا بعدما أُهينوا وأُذِلوا واضطهدوا وعُذِّبوا وشُرّدوا، فكانت الانتفاضة التعبير المتفجر عن رغبات اللبنانيين في الحوار والتلاقي والحريّة والتحرّر من كل أشكال الوصاية والاستتباع والعفن السياسي، كما كانت تعبيراً صارخاً عن توقهم للانعتاق والخروج من السجن الكبير الذي ألقتهم فيه مصالح الدول وصراعاتهم الدموية والسياسات الضيقة والغرائز الطائفية؛ إنتفاضة تعمّدت بدماء الشجعان والأحرار وهي ملك الناس وحدهم، هم الذين صنعوها ولحق بهم أهل السياسة وإختطفوها. بالتأكيد، لم يكن ذلك اليوم التاريخي خطأ ليجري تصحيحه، بل لعله الصواب الوطني الوحيد الذي حوّلته الأنانيات والنكايات والاطماع السلطوية وغياب الرؤية الى ذكرى حزينة. لكن ذلك اليوم وتلك السنة يبقيان ملهمين للأجيال المقبلة بأنّ العين بإستطاعتها مقاومة المخرز إذا توحدّت إرادة اللبنانيين المؤمنين بالعيش معاً. فما من داعٍ وطني لهجاء ذلك النهار على يد المتضررين من إنقضاء تلك المرحلة، وما من داعٍ في إستثماره وإستحضاره في المواسم الانتخابية، وعندما ينهزم مجتمع بكامله فلا مكان لأي إدّعاء بالغلبة والانتصار.

لكن الخطر المستقبلي الحقيقي هو برودة النبض الاعتراضي العام واللامبالاة واليأس من تغيير الواقع، فتلجأ النخب الفكرية والثقافية الى تهميش نفسها والانسحاب من الحياة العامة تجنباً للخوض في وحول السياسة اللبنانية، ولعل نسبة الممتنعين عن الاقتراع تؤشر الى ذلك.

حبذا لو بإستطاعتنا العودة الى ما قبل 2005 لسبب وحيد، لنسترجع الاحبة الذين طالتهم أيدي الغدر.

(أنطوان الخوري طوق)