أين الأحزاب والتنظيمات القوية التي سلبت منها خيرة شبابها ولم تترك منهم سوى صوراً تملأ مداخل مدافن الشهداء؟
 

بعلبك اليوم هزيلة وتعيسة وحزينة. بعلبك اليوم يتيمة. 


بعلبك التي أخذت اسمها من الشمس وبعلبك التي كانت ولآلاف من السنين السالفة تشع نورا وحضارة في كافة أرجاء العالم وفي أربع رياح الأرض، وبعلبك التي استقرت فيها في يوم من ايام الأزمنة الغابرة حضارة من أرقى الحضارات والتي لا تزال آثارها الحزينة ماثلة أمام الملأ، وبعلبك التي تنتصب في وسطها إحدى عجائب الدنيا السبع، وبعلبك التي اشتهرت بآثارها الرومانية الخارقة لحدود المدارك العقلية بروائع هندستها وضخامتها وأرقى درجات الفن في تشييدها وبنائها والتي تقارب حدود الإعجاز والعجائب في ارتفاع جدرانها واعمدتها التي تناطح السحاب والتي تتحدى العلم الحديث بكل تشعباته وتطوراته التكنولوجية والتقنية وبكل اختراعاته وابتكاراته والذي بقي عاجزًا عن اكتشاف السر العظيم وقاصرًا عن تفكيك شيفرة معجزة البناء وما يحمله من براعة غاية في الدقة والإتقان. 


وبعلبك التي كانت مقصدًا للملايين من السياح والمصطافين الذين كانوا يقصدونها من كافة أصقاع الدنيا لتكحيل عيونهم بجمال مناظرها الخلابة والتمتع بمناخها والارتواء من مياه ينابيعها العذبة، وبعلبك التي حيرت علماء الآثار بروعة آثارها وما فيها من فن وإتقان. 


وبعلبك التي عاش أهلها بكافة طوائفهم ومذاهبهم وعلى اختلاف أديانهم وانتماءاتهم الحزبية والسياسية طيلة الحرب الأهلية التي شهدها لبنان طوال خمسة عشر عاما بوئام واحترام ومحبة ودون أن تشهد أي حدث دموي يذكر، وبعلبك التي أخذت اسمها من أحد آلهة الرومان. 

 

إقرأ أيضًا: الثنائي الشيعي مسؤول عن إهمال منطقة بعلبك


بعلبك هذه المدينة الغائرة في الماضي والتي دونها التاريخ على صفحاته البيضاء، يخيم عليها في هذه الأيام العجاف وفي هذا الزمن الرديء أجواء الحزن والخيبة والفشل وفقدان الأمل بالعيش فيها بهدوء واستقرار بعدما افتقدت الأمان في ربوعها والذي غاب في ظلمات الخلافات السياسية والحزبية وضاع في كواليس العصابات الحاكمة، فتحول الأمن في المدينة إلى ريشة في مهب الصراعات الطائفية والمذهبية والنزاعات الفئوية الضيقة، فتحولت المدينة بكل ما فيها من مكونات بشرية وعمرانية إلى غابة خاضعة لشريعة الغاب مع تراخي قبضة الدولة وضالة القيم الإنسانية والأخلاقية وغياب الشرائع السماوية وتغييب القوانين الأرضية، وتحولت شوارع وأزقة وأحياء المدينة إلى ميادين للفوضى والتعديات والارتكابات الجرمية والمعارك المسلحة والتشبيح وفرض الخوات وتجارة الممنوعات ومتاريس لإطلاق الرصاص والقذائف فوق الرؤوس البريئة والباحثة عن الأمان.

وتحولت منتزهات المدينة ومقاهيها في منطقة رأس العين - وهو المتنفس الوحيد للأهالي - إلى حلبة سباق لسيارات المطلوبين والخارجين على القانون وكل أصحاب السوابق يحجبهم عن الرؤية الزجاج الداكن، ويسهل مرورهم غياب اللوحات القانونية عن مركباتهم الفارهة والباهظة الأثمان، وأما قلعة المدينة فتحولت إلى ما يشبه الأطلال تنتظر زوارا منعهم عن زيارتها الخوف من التعدي عليهم وعمليات السلب في وضح النهار، وتجنب الوقوع بأيدي عصابات من اللصوص مع غياب حماية الأجهزة الأمنية لرحلاتهم. 


أما السكان في المدينة فهم أقرب إلى الموت منهم إلى الحياة بعدما فقدوا الأمل بالحياة الهادئة وبالمستقبل الواعد وبعدما يئسوا من تكرار المطالبات والإحتجاجات والمراجعات. 


فبعلبك اليوم يتيمة الأب والأم، فلا وطن يرعاها ولا دولة تحميها وتحنّ عليها، وأضحت منطقة معزولة عن أخواتها في باقي المناطق اللبنانية من الجنوب إلى الشمال مرورا بالجبل وبالعاصمة بيروت. 


وبعلبك حزينة وتندب العدالة المغيبة وفقدان المساواة بغيرها، وهي تتساءل أين الرئيس القوي كي ينصفها؟ 


وأين الأحزاب والتنظيمات القوية التي سلبت منها خيرة شبابها ولم تترك منهم سوى صوراً تملأ مداخل مدافن الشهداء؟ 


أين ممثليها النواب والوزراء الذين ما فتئوا يمثلون على شعبها المسالم ؟ 


فبعلبك اليوم حزينة وتعيسة فلم يعد لها مرجعية لتطالب لها بحقوقها الضائعة.