دخل لبنان وفق المعايير المعتمدة عالمياً في قياس المخاطر المالية والاقتصادية المنطقة الحمراء. والمقصود تحديداً حجم الدين العام الى الناتج المحلي. لكن هناك معايير أخرى، قد تدفع الى الاعتقاد أن الوضع عندنا أشدّ تعقيداً من مجرد اعتماد هذا المعيار.
 

رغم ان معيار دين الدولة قياساً بحجم الاقتصاد الوطني، هو المقياس الرسمي الأوضح المعتمد حاليا لتحديد أوضاع اقتصاديات الدول، إلا أن هناك معايير اضافية باتت تدخل في صلب تقييم الاقتصاد والاوضاع المالية للدول. لكن المفارقة أن «اللجوء» الى هذه المعايير بحثاً عن تخفيف لتعقيدات أزمة الدين اللبناني، قد تقود الى قناعات اضافية بأن الوضع المالي للدولة أدق بكثير مما يبدو عليه.


في هذا الاطار، بدأت المؤسسات الدولية تعتمد في هذه الفترة معايير جديدة لتحديد مخاطر الدين العام. وفي تقرير حديث صادر عن صندوق النقد الدولي، أضاف التقرير الى معيار تقييم الدين العام نقطتين: الاولى تتعلق بالانفاق المتوقّع على رواتب التقاعد، والنقطة الثانية ترتبط بالانفاق على الصحة العامة. واعتبر التقرير ان هذين العاملين لا يدخلان بوضوح في حسابات ديون الدول، لكنهما عاملان مهمان من اجل تقييم موضوعي لتطور الدين العام في الاقتصاديات الوطنية.


هذا التقرير يسمح بالولوج الى مسألة اعادة تقييم خطورة الدين العام اللبناني الذي تجاوز عتبةالـ80 مليار دولار، واقترب من نسبة 150% من حجم الاقتصاد، ودفع لبنان لاحتلال المرتبة الثالثة في العالم في لائحة الدول الاكثر مديونية بعد اليابان واليونان. اذا أخذنا في الاعتبار المعايير الجديدة لقياس خطورة الدين اللبناني، نستطيع ان نلاحظ ثلاث نقاط اساسية:


اولا- في مقياس الدين على الاقتصاد، ورغم ان صندوق النقد يعترف لنا بحجم الدين المُعلن، من دون احتساب ما هو مخفي، تبدو النسبة (150%) مرعبة. لكن تنبغي الملاحظة ان مؤسسات دولية أخرى لا تتعاطى مع تقييم خطورة الدين اللبناني بالتسامُح نفسه، وواحدة منها وكالة الاستخبارات الأميركية (CIA) التي تمتلك تقييما ذاتيا لاقتصاديات الدول، وتسجل في تقاريرها اليوم، ان حجم الدين اللبناني قياساً بحجم الاقتصاد هو 161,5%. وقد ورد ذلك في احصاءات 2017، بما يعني ان هذه النسبة قد تكون اصبحت اعلى في العام 2018.


ثانياً: في ملف الانفاق المتوقع في السنوات المقبلة على نظام التقاعد والتعويضات، «نجح» لبنان في تعقيد هذه الأزمة اكثر مما هي معقدة. وفي وقت كانت المؤسسات الدولية تطالب الحكومة باعادة النظر بأنظمة التقاعد، وتوحيد المعايير ضمن نظام واحد يسهل ضبطه ومراقبته، لجأت الحكومة الى خطوة اقرار سلسلة الرتب والرواتب، والتي أدّت باعتراف من أقرها، الى حالة ضياع في تحديد نسبة نمو كتلة الانفاق المتوقعة على أنظمة التقاعد. وهذا يعني ان الحكومة باتت عاجزة عن تقدير الزيادة في الانفاق المتوقعة في السنوات المقبلة. وهذا أمر غير مستغرب، لأن الحكومة لا تعرف حتى حجم الانفاق الحالي على انظمة التقاعد، بعد إقرار السلسلة.


ثالثاً: في موضوع الانفاق على الصحة العامة، تبرز مسألة الفساد المستشري، والفوضى والتي تؤدي عمليا الى أسوأ خدمة صحية بأغلى كلفة ممكنة. اذ تنفق الدولة حوالي 12% من دخلها القومي على القطاع. مما يجعلها في هذا المضمار، في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الاميركية في حين أن أكثر من نصف اللبنانيين ما يزال مكشوفاً صحيا. واذا أضيف الى الانفاق الحكومي، الانفاق الصحي الخاص، تبدو الفاتورة الصحية ضخمة جدا. ومع ذلك، يستمر الهدر والفوضى. وحتى الان، فشلت عشرات المحاولات لاصلاح هذا النظام، واكبر مثال على ذلك محاولات مكننة فواتير الضمان الاجتماعي، والتي فشلت كلها، بخلفيات أقل ما يُقال فيها انها مشبوهة وتشجّع على استمرار الفساد.


انطلاقا من هذه الحقائق الثلاث التي باتت تشكل معايير تقييم خطورة ديون الدول، يمكن تقدير مدى خطورة الدين العام اللبناني بوضعه الحالي. مع الاشارة الى عوامل كثيرة استجدت في الفترة الاخيرة قد تزيد منسوب التعقيدات، ومنها ارتفاع اسعار النفط العالمية، والتي قد ترفع حجم الانفاق العام بما يقارب المليار دولار.


في النتيجة، واذا استثنينا عامل الاموال التي يحولها اللبنانيون في الخارج، وعامل القطاع المصرفي المتين، يمكن القول ان اقتصادنا لم يعد ينعم يأي نقاط قوة أخرى، وبات عن جدارة يستحق ان يكون في اسفل اللائحة التي صدرت في تقرير اقتصادي في العام 2017. يعتمد هذا التقرير في تصنيف الدول التي تعيش على الديون، على رواية «النملة والزيز» (La cigale et la fourmi) للكاتب الفرنسي لافونتين، ويقسم الدول المديونة، وفق لائحتين:


فئة النمل، (في اشارة الى العمل الدؤوب والنشاط) وتبرز الصين في أعلاها.


فئة الزيزان (الصرصور المغني)، (في اشارة الى الدول الكسولة التي تغني ولا تعمل) ويبرز اسم لبنان في اسفلها. كما يبرز اسم لبنان في نادي الدول الـ12 التي يزيد حجم دينها على حجم اقتصادها.


ما قد «يُعزّي» في هذه الحقائق، لكنه لا يفيد، لأن المقارنة لا تستقيم هنا، ان لائحة الصراصير، واستنادا الى التقرير نفسه، تضمّ الولايات المتحدة الاميركية التي تحتل المرتبة الاولى عالميا من حيث حجم الدين العام، وتستحوذ لوحدها على 31,8% من مجموع الدين العالمي الذي يصل الى 63 الف مليار دولار.