لم يعد لبنان بلدا يتلقى المعارف العلمية فحسب، بل أصبح يساهم في انتاجها وفي مشاركتها مع مختلف بلدان العالم، اذ اختار برنامج "DNA Hit of the Year program"، الذي تنظمه مؤسسة "جوردون توماس هانيويل" للشؤون الحكومية في الولايات المتحدة الأميركية، قضية جنائية علمية أنجزتها المديرية العامة للأمن العام اللبناني بالتعاون مع الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا "AUST" من أهم عشر قضايا جنائية في العالم. 

بدأت القضية حين عثر عناصر من المديرية العامة للأمن العام اللبناني، في كانون الأول 2016، على أشلاء جثامين في جرود عرسال. فطلبت المديرية بإشراف المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابرهيم، من مختبرات جامعة "AUST" تحديد البصمة الوراثية لمعرفة ان كانت هذه الجثامين تعود الى العسكريين المخطوفين آنذاك لدى تنظيم "داعش". وبعد أخذ العينات من أهالي المخطوفين، بيّنت النتائج ان هذه الجثامين لا تعود الى العسكريين المخطوفين.

معلومات طبيّة

تشكّل البصمة الوراثية، وهي مجموعة من الجينات، احدى وسائل التعرّف الى الشخص من دون أن توفّر البصمة معلومات طبيّة. يمتلك كلّ شخص بصمة وراثية فريدة مختلفة عن بصمة الآخر، ويمكن استخراج البصمة من عينات بيولوجية (شعر، انسجة، خلايا، اسنان وغيرها).

يشرح خبير الحمض النووي الجنائي ومستشار البحوث العلمية في جامعة "AUST" الدكتور عصام منصور أن نتائج التحاليل أظهرت تشابهاً في البصمة الوراثية لهذه الجثث، ما يلغي فرضية أن تعود الجثث لأشخاص من مناطق مختلفة وما يرجّح فرضية انتمائها الى قرية واحدة. كما أكّدت النتائج ان الجثامين تعود الى خمسة أفراد وليس الى أربعة.

عندئذ وجّه الأمن العام البحث الى قرية معلولا، التي تبعد 170 كلم عن مكان العثور على الجثامين والتي شهدت اختطاف عدد من الأفراد في العام 2013. وبعد اجراء التحاليل على عينات من الاهالي وعلى الجثث ومقارنتها، أكّدت النتائج العلمية ان اشلاء الجثث تعود الى خمسة أفراد من بلدة معلولا. وتم التوصّل الى النتائج في فترة زمنية قصيرة لم تتجاوز الأسبوعين. فقام الأمن العام، بعدها، بتسليم الجثامين الى السلطات السورية في نيسان 2017.

منذ العام 2004، بدأت مختبرات جامعة "AUST" التركيز على تحاليل البصمات الوراثية في القضايا الجنائية والقضائية، من إثبات ابوّة، او تحديد هوية المجرم، أو هوية ضحايا التفجيرات وغيرها.

تنوّع البصمة

يشرح منصور، الذي أشرف على تحاليل البصمة الوراثية في هذه القضية، أن فريق البحث العلمي درس على مرّ السنوات الماضية، تنوّع البصمة الوراثية في لبنان، خصوصا ان ثلث الزيجات في لبنان تحدث ضمن العائلات المقرّبة، وأكثر من ثلثي الزيجات تحدث ضمن الطائفة أو القرية الواحدة. فبيّنت نتائج الدراسات العلمية أن التنوّع في البصمة الوراثية في لبنان مختلف عن التنوّع عند الشعوب الأخرى ومنها الشعوب الغربية الأوروبية أو الأميركية. فبذلك، قد يظهر بعض الأفراد الذين ينتمون الى قرية أو منطقة جغرافية معينة في لبنان تشابهاً في البصمة الوراثية وإن كانوا ليسوا بأقارب على المستوى الاجتماعي.

يشير منصور الى ان البحوث العلمية المرتبطة بالبصمة الوراثية عند العائلات اللبنانية ساهمت في تسخير المعارف العلمية في خدمة التقدّم في هذه القضية الجنائية وفي حلّ الغازها العلمية، وبالتالي النجاح في تحديد هوية الجثامين. ويضيف انه تم اختيار هذا الانجاز العلمي ضمن أفضل القضايا الجنائية في العالم لما يحمله من أهمية انسانية، ووطنية، وأمنية، ولقدرته على بلورة سبل وآليات جديدة ومبتكرة في حلّ قضايا جنائية مشابهة.

من جهة أخرى، يعزّز هذا التقدير العالمي ثقة الجهات الأمنية والقضائية في لبنان بالتحاليل والمعارف العلمية للارتكاز عليها في قضايا جنائية. كما يعزّز ثقة الشابات والشباب ورؤساء الجامعات بأهمية البحث العلمي في لبنان وضرورة تطويره خدمة للمجتمع وللانسانية. ويشكر منصور المديرية العامة للأمن العام ونائب رئيس جامعة "AUST" للبحوث العلمية عامر صقر على التعاون الفعّال في تحقيق هذا الانجاز العلمي.