قيل الكثير عن انتخاب الرئيس نبيه برّي لولاية سادسة على رأس السلطة التشريعية. وأجمع الأصدقاء والحلفاء والمحبّون، وكذلك الخصوم والمكابرون، على أنّ الرجلَ عاد الى الموقع الطبيعي الذي يجب أن يكون فيه.
 

هذا الإجماع على بري، وجد ترجمته الدقيقة والصادقة في اثنتي عشرة كلمة قالها رئيس السن النائب ميشال المر، ولخّص فيها مسيرة الرجل وموقعه في الحياة البرلمانية والسياسية: «الرئيس بري منذ العام 1992، حامل للميزان، ولا يترك الأخطار تجتاح لبنان».


هي ليست مجاملة من «ابو الياس» لصديقه «ابو مصطفى»، بل هي تعريف مَن يجب أن يعرف وتذكير مَن يجب أن يتذكّر، بالدور الذي لعبه بري منذ اعتلائه سدّة الرئاسة البرلمانية للمرة الأولى في 20 تشرين الأول 1992، وبطريقة مقاربته الأساسيات في السياسة وغيرها، وطريقة تعاطيه مع المحطات الحرجة، ونجح في احتوائها وتطويعها.


ويسجَّل لبري أنه كان يحمل لكل محطة ميزانها الخاص، وعلى سبيل المثال:


- الميزان المجلسي، حينما أضفى بري على المجلس هيبة استثنائية، وطبعه بنكهة خاصة وحيويّة كبرى نقل فيها الحياة البرلمانية في لبنان من ضفة الى ضفة، وجعل مؤسسة مجلس النواب ورشة عمل وخليّة نحل، يُشهد لها في مجلس 1992، حينما رفعته الى المرتبة الأولى من حيث الإنتاجية التشريعية، أمام سائر البرلمانات العربية والأجنبية.


- الميزان الإحتضاني، حينما جعل بري المجلس، عاصمةً للبرلمانيين المتحدّرين من أصل لبناني، لإبقاء لبنان حاضراً في وجدان لبنانيّي الاغتراب والانتشار، وتعزيز الروابط بينهم وبين الوطن الأم.


- ميزان الديبلوماسية البرلمانية، التي أرادها بري رافداً للحكومة في كل المحافل الدولية السياسية والبرلمانية، ونجحت في تذليل كثير من العقبات والعقد التي كانت تستعصي على الحكومات.


- الميزان الوطني، الذي نجح فيه بري في جعل المجلس النيابي منبراً معبّراً عن جميع اللبنانيين، الممثلين فيه وغير الممثلين، وساحة التقاء والتفاف حول القضية الأم للبنان والمتمثلة بالاحتلال الإسرائيلي، وإحياء يوم «14 آذار» في تلك الفترة والتذكير بالقرار 425. ولا تُنسى تلك الشارة الصفراء التي زيّنت صدور النواب قبل التحرير، كما لا ينسى الدور الذي أضفاه بري على المجلس خلال عدوان 1993 وعدوان 1996 وكذلك في تحرير العام 2000 والانتقال بالمجلس والحكومة للانعقاد في بنت جبيل والاحتفال بعيد النصر.


- الميزانُ الإنقاذي، حينما بادر بري الى إطلاق حوار آذار 2006، في وقت كانت الفتنة تطرق الأبواب، والبلد يمرّ في أبشع مرحلة من الانقسام، يومها الجميع يشهد أنّ هذا الحوار أعاد التقاط أنفاس البلد. وكذلك الأمر بالنسبة الى «جلسات التشاور»، والاعتصام النيابي الشهير في مجلس النواب رفضاً للحصار البحري الإسرائيلي إبان عدوان تموز 2006، وبعده إحياء حوار عين التينة لجمع ما يمكن جمعه من الأوصال اللبنانية المتقطعة، قبل أن يُصادر هذا الحوار من قبل «صاحب إعلان بعبدا».


- الميزان الإطفائي والتبريدي، بتجنيب البلد شرّ الفتنة السنّية ـ الشيعية التي ضربت كل محيط لبنان. ومن هنا كانت مبادرته الى إطلاق الحوار الثنائي والمباشر بين تيار «المستقبل» و»حزب الله»، الذي وإن لم يصل الى خواتيم سعيدة، إلّا أنه صار حاجةً للطرفين وساهم الى حدٍّ بعيد في تخفيف الاحتقان بينهما وخصوصاً في أوقات حرِجة كادت الشرارة فيها أن تشعل كل شيء.


على أنّ هذا الميزان، تعرّض لمحاولة كسر ذات يوم، كان يُرادإازاحة نبيه بري عن رئاسة المجلس بأيّ ثمن، ولكنها فشلت وأطيح بالانقلاب الذي كان يحضَّر للبلد وإلقائه في مجهول خطير.


خيوط محاولة الكسر نسجتها انتخاباتُ 2005، التي جرت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. يومها أفرزت الانتخابات أكثرية ما كان يُسمى «فريق 14 آذار». ويومها أصابت النشوة بعض الرؤوس، فجاهر أصحابها أنّ الفرصة مؤاتية لإزاحة نبيه بري. وتبيّن أنّ هذه الفكرة منسّقة بالكامل بالقائدين الحقيقيين لهذا الفريق آنذاك: السفير الأميركي جيفري فيلتمان والسفير الفرنسي برنار ايمييه، اللذان وضعا «فيتو» على إعادة انتخاب بري، وكانا يحضّران في الخفاء مرشّحاً بديلاً، وقد قدّم هذا المرشح نفسه وعرض خدماته لبعض المرجعيات، فسمع ما مفاده «وحدة الطائفة خط أحمر ونقطة على السطر». فانكفأ المرشح وتوارى.


ومع ذلك، استمرّت المحاولة، ولم يوفّر فيلتمان وايمييه فرصة خلال الايام السابقة لموعد انتخاب رئيس المجلس الجديد، إلّا واستغلّاها في سبيل إقصاء بري، وبناء جدار نيابي يمنع وصوله الى الرئاسة البرلمانية. ولهذه الغاية، كثيرون من شخصيات ونواب «الفريق المنتصر في الانتخابات» تمّ استدعاؤهم تارةً الى واشنطن وتارةً أخرى الى باريس. وكلما اقترب موعد الانتخاب زاد تعصيب السفيرين وحلفائهما. وأما بري الخارج آنذاك من انتخابات نيابية في الجنوب شكلت استفتاءً كاسحاً على أنه المرشح الأوحد، فكان يخوض معركته بهدوء ويراقب ما يجري بأعصاب باردة، واكتفى بردّ مقتضب على حركة الاستدعاءات» بالامس كنا نحتاج الى سيارة واليوم صار بدنا طيارة».


وحتى ما قبل ايام قليلة من موعد الانتخاب، صعّد السفيران اكثر، فجاهر ايمييه امام بعض السياسيين بأنه تلقّى تعليمات واضحة من الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك وحرفيّتها: «لا تدعوا النوابَ اللبنانيين ينتخبون نبيه بري». وأما فيلتمان فقد جمع شخصيات وسياسيين ونواباً وإعلاميين. وبدا في هذا اللقاء «معصّباً»، وخاطب الحاضرين بانفعال: «يجب أن يتغيّر نبيه بري، فما معنى التغيير الذي حصل في الانتخابات في حال بقي نبيه بري في موقعه»؟
بعض الحاضرين برّروا: «لا إمكانية لتجاوز بري، الجسم الشيعي موحَّد خلفه»، فاستفزّوا فيلتمان الذي ذهب الى التهديد: «إننا نعتبر إعادة انتخاب نبيه بري اشارة سلبية قد تدفعنا الى إعادة النظر بالمساعدات، وكل ما يتصل بإنعاش الوضع الاقتصادي في لبنان».


يومها علم بري بأمر تعليمات شيراك الى إيمييه وبما قاله فيلتمان في اللقاء الأخير، فرد على طريقته: «ربما فات هؤلاء أنني لستُ مرشّحاً للكونغرس الأميركي ولا للجمعية الوطنية الفرنسية». ثم أردف قائلاً: «أيّ فخر أكبر من ان تواجهك اميركا وفرنسا. فخر لي أن أترشّح مقابل هذا الرفض، فإن فزت، فسيكون فوزاً عظيماً، وإن خسرت فهي خسارة عظيمة وأكثر من مشرّفة. فأن تخسرَ امام اميركا وفرنسا معاً أمر مهم جداً، وأيّ شخص يتمنّاه، فكيف إذا ربحت وانتصرت؟».


وجاء يوم الانتخاب وانتُخب بري. والمسألة لم تنتهِ هنا، في ذلك اليوم، كان بري يعدّ الدقائق لتنتهي تهاني النواب له في مكتبه، لكي يتوجّه من المجلس الى مدرسة «الكوليج» لحضور حفلة تخرّج ابنه باسل. والطريف في الأمر أنّ السفير الفرنسي برنار إيمييه كان في مقدّمة المستقبلين الى جانب رئيس المدرسة.


بوصول بري الى الكوليج، بدأت مراسم الاحتفال، وما هي إلّا دقائق حتى ضجّت المنطقة كلها، فتبيّن بعد الاستفسار أنّ موكباً سياراً لمجموعة كبيرة من شباب حركة «أمل»، وما ادراكم ما شباب حركة «أمل»: هيصة، وزمامير، وتصفيق، و«بالروح والدم نفديك يا نبيه»، وما الى ذلك من شعارات تحيّي انتخابَ بري. هنا تقدّم احدهم ( ربما السفير الفرنسي) من بري وسأله: «ما هذا؟ ماذا يحصل؟»، فردّ قائلاً: «لا تقلق هذه عيّنة عمّا سيحصل مساءً».


اللقاءاتُ التي جرت بعد ذلك بين بري وإيمييه كانت جدّية ولم تكن حادّة، واستمرت حتى ما بعد انتقاله من لبنان، وقبل فترة عاد وزاره في عين التينة بعدما تمّ تعيينُه مديراً للمخابرات في فرنسا. وأما اللقاءات مع فيلتمان فكانت اشبه بـ»دقي واعصري»، وتسودها لغة الإبر والمخارز والدبابيس والمسامير والمسلّات، هما يعترفان بأنّ حديثهما كان شاقاً لكنه ممتع، بري بدهائه وخبرته وحنكته وفيلتمان بذكائه وسرعة بديهته. وحتى بعدما غادر، بقيت شعرة التواصل قائمة، وخصوصاً في المناسبات وعبر رسائل نصّية (sms) وتبرز واحدة أرسلها فيلتمان الى بري مهنّئاً بعيد الفطر. فردّ بري برسالة مماثلة على طريقته: «كان اللافت أنّ رسالة رئيس دولتك باراك اوباما لمعايدته لي، فيها شيء من الودّ أكثر من رسالتك». فردّ فيلتمان سريعاً: «معك حق يا دولة الرئيس، أنّ رسالة الرئيس اوباما الموجّهة اليك تحمل طيفاً من الودّ والمشاعر أكثر من رسالتي، لأنه لم يتلوّع مثلي، ولم يعش الصعوبات والعذابات التي تلقيتها منك».


قبل فترة قصيرة، علم بري أنّ فيلتمان أُحيل على التقاعد، فلم يترك المناسبة تمرّ، بل سارع الى إرسال رسالة نصية الى فيلتمان، ضمّنها ما يلي: «مبنى الامم المتحدة مبتسم لمغادرتك وتقاعدك».


أيام قليلة ويأتي الرد من فيلتمان برسالة استعرض فيها مهمته في لبنان والامم المتحدة، وخلص فيها الى القول: «نختلف في امور كثيرة، والأهم أنني أعترف بأنني لم أكن بالصبر الذي أنت فيه».


المهم، وعلى ما تكشف الرسالة، فإنّ فيلتمان، هذا الرجل الذي شغل لبنان، وسعى الى صبغه بلونه، وإزاحة بري عن رئاسة المجلس، تقاعد وخرج من السياسة، قرّر أن يذهب الى الزراعة وتربية الأبقار والأغنام والماعز، فأخذ لنفسه مزرعةً في احدى الولايات الأميركية، وقرّر الانتقال اليها ومتابعة حياته فيها.


يبقى أنّ بري عاد ليحمل الميزان من جديد، وفي زمنٍ هو الأصعب، في تاريخ لبنان، يده ممدودة، ورهانه على المجلس الجديد بأن يستحضر روحَ مجلس 1992 من حيث الحضور والجدّية والإنتاجية والفعالية في مقاربة الأولويات. الاقتصاد في خطر، والأولوية الملحّة لحكومة تقدّم نفسَها قولاً وفعلاً، أنها حكومة إنقاذية تشكل الوصفة الملائمة للخروج من الأزمة، وليست حكومة خنادق ومتاريس وصفقات من فوق الطاولة ومن تحتها.