أيّاً تكن النتائج التي ستؤول اليها المشاورات النيابية التي أجراها الرئيس المكلّف في ساحة النجمة لتأليف الحكومة، فما كُتب قد كُتب وما سيُكتب لا علاقة له بها. فهي مجرّد مشاورات لا تُلزم رئيسَ الجمهورية ولا الرئيسَ المكلّف.
 

يدرك الجميع أنّ الاتّصالات الهادفة الى تأليف الحكومة العتيدة بكل مقوّماتها وعملية توزيع الحقائب لا تنتظر أيّاً من الآليات الدستورية التي عبرت أو تلك المنتظرة. فالإستشاراتُ التي أجراها رئيس الجمهورية حُسِمت قبل أن تنطلق ولم تحمل أيَّ مفاجأة في تسمية الرئيس سعد الحريري والتي لم يكن ينقصها سوى الحصول على الرقم 111 للتسمية والتكليف وتشكيل «الترويكا الرئاسية» بما تحمله هذه التسمية من معانٍ تعيد الى الأذهان منطقَ المحاصصة وتقاسم المواقع وتبادل المصالح وحمايتها.


فالتسوية السياسية التي تمّ تجديدُ العمل بها فور انتهاء الإنتخابات النيابية في السادس من أيار جعلت كل هذه المحطات الدستورية «باهتة» لئلّا يُقال إنها «اصطناعية»، فكل ما رافقها من أشكال الحفاظ على الديموقراطية وما تلاها من احتفالات ومواقف لا تخرج عن نطاقها التقليدي.


وبعيداً من كل هذه المحطات التي لم يكن منها بدّ في شكلها ومضمونها، يبدو للمراقبين السياسيين والديبلوماسيين من طبّاخي التركيبة الحكومية الجديدة أنّ معركة تأليف «حكومة العهد الأولى» قد انطلقت باكراً، ويُقال إنه تمّت هندستُها في خلال التحالفات الإنتخابية مع ما حملته من غرائب وعجائب تمّ عقدُها وإمرارُها في ظلّ التفاهمات الكبرى لصوغ المحطات الحكومية التي ستليها. ولعلّ أبرز ما يدلّ على ذلك ما قُطع من وعود بالتوزير عند تشكيل اللوائح وسحب المرشحين وترتيب اللوائح التي كانت توحي بالخطوات المقبلة فرسمت مشاهدَ كثيرة بخطوطها العريضة والتي ستترجمها التفاهماتُ الجارية لتوزيع الحقائب في الأيام والأسابيع المقبلة.


قد يقول عاقل، إنّ في كل هذه المعطيات ما يوحي بوجود «مايسترو» قوي هندس القوائم الإنتخابية بـ»دهاء» وجمع فيها التناقضات ونجح في استدراج الجميع الى التحالفات التي عُقدت وكُرِّست في صناديق الإقتراع كخطوة أوّلية ساهمت أو انتهت كما أُريدَ لها الى تشكيل بعض الكتل النيابية الغريبة والعجيبة التي سيجري تسييلُها في التركيبة الحكومية الجديدة.


وفي الكواليس الحكومية كلامٌ كثير وطبخاتٌ يجري تداولُها بعيداً عن التسريبات التي تحمل ما يكفي من أفخاخ بغية «جسّ نبض» الشارع والقوى السياسية والحزبية، ودفعها الى دعسات ناقصة تؤجّج النزاع لتبرّر ما تمّ التفاهمُ عليه وتسهيل فرضه على الجميع بإرادة الرباعي القادر على كل شيء.


ومن دون الدخول في كثير من التفاصيل التي تبرّر هذا السيناريو، لا يمكن التغاضي أو تجاهل بعض الوقائع التي ميّزت الإنتخابات النيابية وانتهت الى تكوين القوى الأربع الكبرى التي وضعت قانون الإنتخاب الجديد، وهي خطوة لم يكن منها بدٌّ لتأكيد رغبتها في السيطرة الكاملة على مقدّرات الدولة والمؤسسات بعيداً عن أيِّ شريك أو منافس محتمل لأيّ منها. فالشركاء المحتمَلون كثر ويمكن الإشارة اليهم من خلال ما تعرّضت له بعض القوى بهدف تطويقها المبكر بدءاً من تشكيل اللوائح الى فتح صناديق الإقتراع.


ومن هنا يمكن فهمُ الضربات القاسية التي وُجِّهت الى بعض القوى في العملية الإنتخابية، فاستُهدف وليد جنبلاط في الجبل والبقاع الغربي بترؤس الأمير طلال أرسلان لائحة بعدما ترك له جنبلاط مقعده في عاليه. واكتملت العمليةُ بفصلٍ جديد عند تشكيل كتلة نيابية من خلال إعارته ثلاثة نواب من «التيار الوطني الحر» وحلفائه المستقلّين. وكل ذلك بهدف تجويف الأكثرية الدرزية الساحقة التي حقّقها جنبلاط في الإنتخابات (7 من 8 نواب)، أضف الى ذلك تطويقه بالشروط التي شهدتها دوائر أخرى ولا سيما منها البقاع الغربي والتي شارك فيها أكثر من طرف على ما ظهر لاحقاً من خلال توفير وصول المرشح إيلي الفرزلي الى ساحة النجمة.


وهناك قضية أخرى أكثر صعوبة وقد تشكّل مقاربتُها مشكلةً حقيقية تتصل بالتمثيل الذي تطالب به «القوات اللبنانية» في الحكومة العتيدة، في وقتٍ لم تتوافر بعد المؤشرات الى وجود مَن يلاقيها في هذه المعادلة. فصمت الحريري تجاه هذا المطلب والهجوم العنيف الذي شنّه قادة «التيار الوطني الحر» ونوابُه على وقع التصنيف الجديد الذي قدّمه رئيس التيار الوزير جبران باسيل وعبّر عنه في أكثر من مناسبة، استفزّ نواب «الجمهورية القوية» وسط مخاوف من مشاريع لإحراجها وإخراجها من المعادلة الحكومية.


فالنّية بتوسيع حصة تمثيل «التيار البرتقالي» والعهد الى 10 أو 11 وزيراً بين محازب وحليف قبل أن تبدأ مشاوراتُ التشكيل تُنبئ بهذه المواجهة المفتوحة على شتى الإحتمالات، في وقت ظهرت بوادرُ الحفاظ على حصص للقوى المسيحية الأخرى مثل تيار «المردة» وحزب الكتائب ويمكن تعويضُ الحزب التقدمي الإشتراكي بوزيرٍ مسيحي وهو ما يهدّد بفقدان حقائب لا تكفي لإرضاء «القوات اللبنانية» بما تريده من حصّةٍ وازنة.


والى هاتين العقدتين، تبقى هناك عقدة التمثيل السنّي والدرزي الرمزي الذي يطالب به رئيس الجمهورية بعد إقفال باب التوزير الشيعي أمامه هذه المرة، ليضيف عقدة إضافية على مطلب الثنائي الشيعي بتمثيل مجموع النواب السنّة من خارج تركيبة «المستقبل» الذين تمّ «حشرُهم» في كتلة نيابية جديدة لم يُحسَب لها يوماً أيُّ حساب وهو ما سيدفع الى «الغَرف» من مجموع الوزراء المسيحيين والسنّة، الأمر الذي يزيد الأمور تعقيداً.


أمام هذه الصورة «الفسيفسائية» المعقّدة، هناك ضغوط خارجية ستدفع اللبنانيين الى تنازلات متبادَلة يمكن أن تسهّلَ عملية التأليف، أو تقود بالعكس أي الى مزيد من التعقيدات التي ستشلّ حركة الرئيس المكلّف، ما قد يقوده الى الإعتكاف في المرحلة الأولى قبل إعادة تكليفه مرة أخرى بما يشبه «الصلاحيات الإستثنائية» فتدفع البلاد بسلاسة الى مواجهة حكومية - نيابية لا تنتهي سوى بالتصويت النيابي بين مانحي الثقة وحاجبيها، فتولد أكثرية حاكمة من «رباعي القوى» وأقلّية معارضة أكثريّتها مسيحية وهو ما دعا اليه رئيس الجمهورية قبل فترة. ومَن يستطيع الإستخفاف بمثل هذا السيناريو فليقدِّم بديلاً مقنعاً منه في بلد لم يتفهّم فيه بعد معظم المتنازعين، وخصوصاً المسيحيون منهم، ما يعنيه المثل القائل «أُكِلتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض».